بعد مرور سبعين سنة على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم: 181 في 29 تشرين الثاني 1947 بتقسيم فلسطين لدولتين عربية (فلسطين) ويهودية (إسرائيل)، يأتي مجلس الأمن يوم الاثنين قبل الماضي ليُفْشِل قراراً يرفض مضمونه قرار الولايات المتحدة بنقل سفارتها للقدس، من ثَمّ: الاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة للدولة العبرية
 

هناك خطأ إستراتيجي ستكون له تداعيات سياسية وقانونية تؤثر على وضع المدينة، وقد تضفي مسحة سياسية وأخلاقية وقانونية لواقع احتلال المدينة من قبل إسرائيل، تصل لمدى خطورة القبول بالاعتراف بها عاصمة للدولة العبرية. ما كان للولايات المتحدة أن تستعمل حق النقض (الفيتو) لو أن قرار الإدارة الأمريكية بنقل سفارتها إلى القدس منصوصٌ عليه صراحةً في مشروع القرار. عندها كان ميثاق الأمم المتحدة، وبالتحديد المادة: 27 الفقرة: 3 سيحول دون الولايات المتحدة والاشتراك في التصويت، لتعارض المصالح البَيِّنِ هنا.. وبالتالي: يُمَرّر مشروع القرار في غياب وجود المندوبة الأمريكية في المجلس، هذا إذا سُمِحَ للقرار أصلاً بالعرض للتصويت عليه في المجلس.

إسقاط "الفيتو" الأميركي، لمشروع القرار، الذي قدمته -بالمصادفة- مصر (المندوب العربي، في مجلس الأمن)، أحدث عدة سوابق سياسية وقانونية، وحتى أخلاقية، تصب جميعها في صالح ترسيخ، إن لم يكن تأكيد، واقع احتلال إسرائيل للقدس.. وشرعنة ادعاءاتها في المدينة المقدسة. هذا القرار يجب ألا يُلتفت إليه على أنه قرارٌ لم يُمَرّر بسبب "الفيتو" الأميركي، بقدر ما تؤكد سلبيته على ما نقضه من مواقف دولية سبق للمجتمع الدولي أن أقرها، وأضحت بسببه أثراً بعد عين.

مشروع القرار هذا، الذي لم يُمرّر، بسبب "الفيتو" الأميركي سيتضح مع الوقت كم خدم ادعاءات إسرائيل في المدينة المقدسة، بقوة أكبر من أي قرار كان ممكنا أن يصدر من مجلس الأمن يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، هذا إذا كانت هناك من فرصة حقيقية لمثل هكذا قرار أن يصدر من المجلس. الولايات المتحدة بتصويتها السلبي هذا تكون قد أسقطت فعلياً كل القرارات الدولية، التي تحكم وضع القدس بوصفها مدينة محتلة، سبق وصدرت عن مؤسسات الأمم المتحدة، منذ احتلال المدينة في حرب 1967 ، حتى قبل ذلك، ومن ضمنها قرار التقسيم، رقم: 181، لعام 1947.

بعد هذا "الفيتو" الأميركي، لن تسمح واشنطن، بتمرير أي مشروع قرار لمجلس الأمن تقدمه أي دولة أو مجموعة دولية لمواجهة أي دولة تختار أن تفتح لها سفارة في القدس، سواء بإرادتها أو دفعاً من قبل الإدارة الأمريكية لتعزيز خطوة نقل سفارتها للقدس. بالتأكيد: واشنطن في المرحلة القادمة ستعمل على دعم مشروع نقل سفارتها للقدس، بتشجيع دول أخرى فقيرة وهامشية، وربما تكون عربية وإسلامية لتحذو حذو الخطوة الأمريكية.. أمورٌ لا يمكن استبعادها مع حمى التطبيع التي تجتاح المنطقة، هذه الأيام.. واعتبار دول عربية القدس "قضية جانبية"! وكذا انحسار التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية.

أمام السابقة الخطيرة التي أحدثها الفيتو الأميركي الأخير، علينا أن لا نفرح كثيراً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم الخميس الماضي، الذي تبنى صيغة مشروع القرار الذي أسقطه "الفيتو" الأميركي. قرار الجمعية العامة هذا قد يكون تراءى للبعض ما يبدو من "هامشية" للنفوذ الأميركي في العالم، بتصويت 128 دولة لصالح القرار وتسعة فقط صوتوا ضده، 38 امتنعوا عن التصويت. هذا بالإضافة إلى أن القرار لم يُشِر للولايات المتحدة، نصًّا. هنا، قد يجادل البعض: أن تهديد واشنطن لمن يصوت مع القرار سيطاله عقاب العم سام، لم يجدِ نفعاً ولم يثنِ 128 دولة من التصويت لصالح القرار. صحيح: قد يكون التهديد هنا جاء بأثر عكسي، لكنه لم يساهم، بصورة مؤثرة، في تشكيل هذا التحول السلبي تجاه القدس والقضية الفلسطينية، في المجتمع الدولي، عكس ما كان الأمر في السابق.

الرقم ذو الدلالة هنا، هو ذلك الخاص بالدول الممتنعة عن التصويت، التي بلغ عددها 38 دولة، أي ما يعادل خُمْسُ أعضاء الأمم المتحدة، الذين سبق لمعظمهم أن صوتوا ضد جميع الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل منذ احتلالها للقدس في حرب يونيو1967. الامتناع عن التصويت هو موقف سياسي سلبي، لكن له دلالة سياسية وقانونية وأخلاقية لا يمكن الاستهانة بها، بالتالي: يُعَدُ مؤشراً على أفول نجم قضية القدس والقضية الفلسطينية في النظام الدولي.

إن العالم، في هذه الأيام، يعيش حقبة الباطل الإسرائيلي، ويشهد عالمياً أفول نجم الحق العربي في فلسطين والقدس. إن "الفيتو" الأميركي كان سقطة تاريخية وقع فيها العرب بإرادتهم، ولا نقل: بغفلتهم. لن يمحو خطيئة مجلس الأمن، في حق القدس، صحوة الجمعية العامة المتثاقلة لإدارة الضرر الإستراتيجي الجسيم، الذي أحدثه مجلس الأمن لقضية القدس.

القدس بقرار، سقط في مجلس الأمن بـ"فيتو" أميركي، أصبحت عاصمة لإسرائيل... أو تكاد.