ماذا نعني بكلمة théâtre؟ وهل يضيء لنا الأصل التيمولوجي لهذه الكلمة زوايا مظلمة في أذهاننا عن هذا الفن؟ وإذا ما تأملنا هذا الأصل، فنندفع إلى الانبهار بسحر المسرح، ألن يكون ذلك اندهاشاً فلسفياً لمساءلة تراثنا؟

ماذا عن الغرب ورهاب النرجسية الذي يصيبه إلى اليوم، ألم يحن الوقت —مسرحياً على الأقل —أن ننفجر في وجهه غاضبين بمسرح آخر؟ وأين نحن من كل هذا؟

قد تكون الأسئلة المطروحة أبواباً متعددة لمدخل نقدي مكثف لما نعيشه اليوم من انحباسات نتوق للتخلص منها بشكل عاجل، لعل أهمها "التحريم"، "إنكار الاختلاف"، "الأحكام المجتمعية" وغيرها من قيود الإنسان على الإنسان —والتي— يعود للمسرح الفضل في جعلها مرئية فتتسنى مساءلتها وإقحام الجمهور في قضاياها واقتراح تأويلات وحلول لها. ومنه، أدعوكم إلى جولتنا وأكرم خزام في الدورة 19 لأيام قرطاج المسرحية الممتدة بين 8 و16 ديسمبر 2017.

اللقاء مع أكرم خزام حدث صدفة في حفل أقيم بقصر النجمة الزهراء في ضاحية سيدي بوسعيد بالعاصمة تونس لتكريم الفنان المصري محمد صبحي والفنانة التونسية أنيسة لطفي (المرأة التي رسمت صورتها على الدينار التونسي بأمر من الرئيس الحبيب بورقيبة أيام تأسيس العملة التونسية بعد الاستقلال).

سألنا خزام إذا كان في تونس من أجل تغطية الأيام المسرحية فأجاب بالنفي قائلاً أنه "ضيفٌ"، وأنه بالأصل "مخرج مسرحي كان قد درس في معهد موسكو للفنون المسرحية".

سوريا والعراق "الموت وضعنا الراهن"
انتشر خبر "ستاتيكو" كالنار في الهشيم بين رواد المسرح في تونس، فقد قيل عنها الكثير بين رواد حانات ما بعد العروض ومن بين الأقاويل "مسرحية تصور نتائج نسيان المسدسات على مقاعد الحدائق العمومية".

وبحديثنا إلى الممثلة المسرحية السورية نوار يوسف حول العرض قالت إن "الجمهور مدعو مرة أخرى إلى مشاهدة هذه المسرحية، فهي تقول—في جملة ما تقوله—أنّ الإنسان اليوم لم يعد قادراً على التحكم في قدره بل متحكم فيه وحتى المتر ونصف التي تلي عقل الإنسان في الجسم لم تعد خاضعة لأوامر ذلك العقل بل لأشياء أخرى خارجة عنه وهذا الأمر الأصعب في نظري وفي نظر المخرج جمال شقير".

منذ ساعات قليلة، نالت نوار يوسف جائزة أحسن دور نسائي عن شخصية أمل في مسرحية ستاتيكو، العرض حاز أيضاً على جائزة أحسن نص -شادي دويعر- وأحسن ممثل -سامر عمران.

كانت نوار يوسف تجلس مع المخرج والممثل العراقي علاء قحطان في الركن ذاته داخل بهو فندق وسط شارع الحبيب بورقيبة بتونس. وقد أجاز له ذلك التدخل قائلاً "الوضع في سوريا ليس مختلفاً عن الوضع في العراق".

فسألناه عن القصد مما قاله فأجاب "يشارك العراق بثلاثة عروض من بينها العرض الذي يشارك في المسابقة. وقد أردنا أن نسأل من خلال هذا العرض عن مستقبل العراق هل يكون سعيداً دون مشاهد القتل اليومية؟ أم أن هموم العراق متأصلة في أركان أخرى غير الحرب الأهلية؟" 

على وقع هذا السؤال سألت علاء قحطان عن ما يمكن أن يكون عليه العراق دون المذابح اليومية بين أبناء الوطن الواحد فأجاب "علينا أن نعمل على عراق موحد تنتهي فيه كل الأسئلة الطائفية والمذهبية والدينية المقيتة... علينا أن نتجول في العراق آمنين من الفساد والكراهية والفقر وعلينا أيضا أن نسكر وأن نرقص وأن نحب وأن نرى ذلك في شوارع بغداد والبصرة وتكريت والموصل وغيرها من مدن العراق الجريح".

مسرحية أخرى جذبت الانتباه في أيام قرطاج المسرحية وهي "فريدم هاوس" للمخرج والممثل التونسي الشاذلي العرفاوي وهي أول عمل مسرحي له كمخرج. وقد ارتكزت دراماتورجيا فريدم هاوس على شخصية جنرال في الجيش كان يحكم مجالاً ترابياً كان قد سيطر عليه بجنوده وأصبح يحكم في تلك الرقعة إلى أن دخلت فتاتان إلى ذلك المجال هرباً من حادثة وقعت لهما فأدخلهما في جنوده وأصبحتا مقربتين له.

وفي الأخير يتم اكتشاف أن هذا الجنرال مريضٌ نفسيٌّ، وأن تعرضه للتعذيب بالصعقات الكهربائية قد أدّى إلى إصابته بهلوسات وتهيآت جعلته يتخيل نفسه حاكماً وله نفوذ. ويقول العرفاوي في هذا الإطار "نعم... السلطة هي أعلى درجات الجنون والكرسي في الحقيقة هو منصة لصعقات كهربائية تسبب الهلوسة بالتجبر والنفوذ".

وقد عرضت المسرحية في أيام قرطاج ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان.

هناك شيء سحري غريب في المسرح
انتظرنا الأستاذ عبد الحليم المسعودي رئيس لجنة تحكيم دورة هذا العام لأيام قرطاج المسرحية في بهو فندق "أفريكا" الذي اجتمع فيه المسرحيون في اليوم الأخير من الأيام. انتظرناه مثقلين بأسئلة مترعة بشيء غامض لم أتوصل إلى فهمه إلى حدود اللحظة. رفع سماعة الهاتف وقال "انتظرني.. أنا قادم إليك الآن"... ثم جاء عبد الحليم.

لم أطرح في البداية أي سؤال وأخذ الحوار بيننا ينساب بشكل تلقائي. وحدثنا عبد الحليم عن "الكوجيتو الغربي" في تجلياته المسرحية وأكد على غرار أستاذ الفلسفة التونسي فتحي المسكيني أن هذا "الكوجيتو مغرور" وأن غروره لم يعد مبرراً البتة.

فتحت هذه الجملة باب التساؤلات المنهمرة وأولى تلك التساؤلات هي عن المسرح نفسه وماذا تعني الكلمة؟ فأجاب بأن الـ"THEA" أو "التيا" يعود إصلها إلى اللغة اليونانية وتعني "فعل الرؤية" والـ"TRON "، "ترون"، تعني المكان الذي ينظر منه، أي أن الكلمة "تياترون" تحيل إلى المكان الذي نرى منه الأشياء... وهذا جوهر المسرح في الحقيقة.

وأشار عبد الحليم إلى أن فعل الرؤية متأصل في النسق الغربي منذ اليونان القديم (بينما يتم تحريم الرؤية في الحضارة الإسلامية بدليل غياب مراكمات في الفنون البصرية والرسم في المجال الإسلامي) وأن المراكمات التي حدثت منذ تلك العصور وصولاً إلى الحداثة مروراً بالعصور الوسطى وسلطة الكنيسة قد أدت إلى ما عليه اليوم المسرح الغربي اليوم، مستدركاً أن وجود أنساق أخرى في المسرح والثقافة أمر ممكن وأن "الكوجيتو الغربي المغرور" ليس حتمية علينا الاقتداء بها. قاطعته هنا وسألته "ماهي الأنساق الأخرى مثلاً".

فأجاب باقتضاب "ابحث في المسرح الهندي مثلاً، المسرح السنسكريتي فهو مسرح يبحث داخل الإنسان عن السعادة والطمأنينة وهذا نسق مغاير للنسق الغربي وكوجيتو مختلف عن الكوجيتو المسرحي الغربي". 

"الرؤية" و"الفرجة" لدى العرب
ولئن أشار عبد الحليم المسعودي إلى ارتباك تاريخي قد حدث لدى العرب في مسألة "الرؤية" و"الفرجة" والنزعة التحريمية التي طغت في الفقه الإسلامي حول التمثيل والتقمص والمسرح والعرض الفرجوي، إلا أن المسعودي أكد أن التراث العربي قد شهد استثناءات في تاريخه تنزع نحو تأصيل الفنون في الثقافة العربية.

فأشار إلى العصر العباسي بالأساس واصفاً إياه بأنه من "اللحظات الذهبية في تاريخ الفن العربي"، كما ذكّر بابن رشد وتفاعله مع أعمال بأرسطو (المعلم الأول الذي عرّف التراجيديا في المسرح اليوناني القديم) وكان ابن رشد فيلسوفاً هاماً، عُرف من أعماله في أوروبا دراسته وشرحه لأعمال أرسطو. ولا تزال الطاقات "المسرحية" في التراث العربي بانتظار من يدرسها ويربطها بعلاقتنا بالمسرح كما نعرفه اليوم.

وتابع رئيس لجنة التحكيم كلامه عن المسرح العربي مؤكداً أن "المسرح التونسي حظي بفرصة المراكمة طيلة نصف قرن، فأنشأ تميزاً في مساره وهو نقطة مضيئة في المسرح العربي وقد أثّر المسرحيون التونسيون أمثال الفاضل الجعايبي وجليلة بكار وتوفيق الجبالي وفاطمة سعيدان ومن قبلهم علي بن عياد وغيرهم في الكثير من المسرحيين العرب".

وأضاف عبد الحليم المسعودي وهو أستاذ وباحث في الجماليات بالجامعة التونسية أن المسرح له قوة غريبة وسحرية "فبمجرد الوقوف على الخشبة يصبح المشهد ذو معنى. ذلك الوقوف حتى وإن كان جافا ودون كلام فإنه يقترح على المشاهد أفكارا عديدة وتأويلات متعددة وقراءات لا تنتهي... إنه طاقة حقيقية ومباشرة وملموسة تبدأ بمجرد وضع الجسد قائماً فوق المسرح".