تعيش تركيا حالة من الارتباك بسبب تداعيات تدخلها في الملف السوري، وأيضا بسبب المتغيرات المتسارعة في المنطقة التي لا تتسق مع مصالحها الاستراتيجية خاصة بعد نجاح استفتاء كردستان. ويرى مراقبون أن أنقرة قد وقعت في فخ الأزمة السورية، وتزيد من وضعها الإقليمي الصعب والحرج إمكانية تدخلها العسكري في إدلب، ورغم أنها منطقة محفوفة بالمخاطر بالنسبة إليها نظرا لعدم ثقتها بكل من الجانب الإيراني والروسي، إلا أنها وقعت في ورطة الاضطرار إلى هذا التدخل جرّاء تفاهمات محادثات أستانة الأخيرة القاضية بتطبيق اتفاق خفض التصعيد، ودعمها لفصائل المعارضة المسلحة التي تؤيد التدخل العسكري في المدينة، لكن يبقى الحد من النفوذ الكردي الدافع التركي الأبرز لهذه المعركة المتوقعة
 

التدخّل العسكري التركي بات يقف خلف أبواب معبر باب الهوى الحدودي، بمدرّعاته ومدافعه وجرافاته، وينتظر ساعة الصّفر المتفق عليها مع الروس والإيرانيين في أستانة 6؛ فتركيا واقعة في ورطة الاضطرار إلى هذا التدخل، وما يرافقه من عمل مكثّف على صعيد التواصل مع روسيا وإيران من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، إضافة إلى التنسيق مع الفصائل، إذ عينت ضبّاط ارتباط في الداخل الإدلبي، وكل ذلك للتخفيف من عبء وكلفة المواجهة المحتملة مع تنظيم هيئة تحرير الشام، وبالتالي المحافظة على نصيبها المتبقي من الكعكة السورية، أي إدلب وريفها.

تركيا حُشرت في زاوية ضيّقة، فالولايات المتحدة كانت تدفع باتجاه السيطرة على إدلب، عبر تقدم قوات سوريا الديمقراطية غرب النهر، وبالتالي إخراج تركيا من كلّ نقاشات التغيير في سوريا.

المخطط الأميركي هذا لم يُكتب له النجاح، حيث ترفض الفصائل المتواجدة في إدلب التدخل الكردي مدفوعةً برفض شعبي له أيضاً، إضافة إلى التقاء المصالح التركية الروسية لمنع تمدد الأكراد شمال إدلب.


التورط التركي في إدلب

يرى الناشط السوري أبي العزو المقيم في مدينة سراقب أن “لإدلب حساسيتها؛ فلها حدودٌ مع تركيا، وتشكل عمقا لقاعدة حميميم الروسية، لذلك أدخلت تركيا الروس لضمان الفصل بين عفرين وكونتون عين العرب”.


عمار الواوي: تركيا تدرس جميع الاحتمالات بينما تحشد قواتها على الحدود السورية
أما الكاتب التركي سمير صالحة فإنه يلفت إلى أن “إدلب ورطة بالنسبة إلى تركيا ويجب تجنب الكارثة، وتتمثل ورطة تركيا في أمرين؛ الأول فتح الطريق أمام سوريا الديمقراطية باتجاه إدلب، والثاني ورطة استقبال مليون نازح إضافي من المدينة ذاتها”.

ويشير منذر آقبيق المتحدث الرسمي باسم تيار الغد السوري إلى أن “ورطة تركيا في إدلب هي نتيجة لخياراتها السابقة التي أدت إلى ظهور جبهة النصرة ودعمها”.

ويقول آقبيق لـ”العرب” إنه “علينا أن نعود إلى بداية الأزمة في عام 2013 عندما تشكلت ما يسمى الجبهة الإسلامية بدعم قوي من تركيا وقطر وأعلنت انفصالها عن مجلس أركان الجيش الحر”. وأردف “هذا يدل على التساهل التركي مع هذا الفصيل الذي كان يعلن بشكل واضح انتماءه إلى تنظيم القاعدة الإرهابي”.

وأضاف “كان واضحا أيضا منذ سنوات أن الاستراتيجيتين الروسية والأميركية تلتقيان بشكل وثيق في ما يتعلق بالقضاء على المنظمات الإرهابية في سوريا، كما اتفق الطرفان على تسميتها في قرارات مجلس الأمن وخاصة داعش والنصرة”.

ويؤكد آقبيق أنه “كان على كافة الأطراف السورية الثورية، وتلك الإقليمية التي تدعم الثوار الابتعاد تماما عن ذلك التنظيم، بل ومواجهته والقضاء عليه في وقت مبكّر لأنه تسبب في تشويه شرعية الثورة السورية”.

ورأى أنه “كان بمثابة الثقب الأسود الذي ابتلع مكتسبات الثورة. و بعد أن غيرت جبهة النصرة اسمها إلى فتح الشام، ظلت المواقف الدولية منها كما هي، لأن نواة التنظيم الصلبة مكتسبة أيديولوجيا من القاعدة ولا يتوقع منه تغيير فكره، كما أن أغلب عناصره من غير السوريين”.

ويعتقد العميد الركن مصطفى الشيخ المنشق عن الجيش السوري أن “تركيا متخوفة من التورط عسكريا بالشمال السوري الذي يشكل بؤرة المستنقع السوري”.

وأشار الشيخ لـ”العرب ” إلى أن “إدلب منطقة محفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى تركيا نظرا لعدم الثقة بالجانب الإيراني أولاً والروسي ثانياً على النحو الذي يرضيها بالرغم من الضوء الأخضر الروسي لدخولها شمال سوريا لتطبيق مخرجات أستانة”.

وتوقع الشيخ أن “تعتمد أنقرة على درع الفرات وأحرار الشام، وهي تدرك إن لم يوجد جدول زمني لهذا التدخل فقد تغوض في هذا المستنقع، إضافة إلى تداعيات الوضع الجديد بإقليم كردستان بعد الاستفتاء، فهي في موقف حرج وخياراتها صعبة”.

ويضيف “يبدو أن ما يزيد الضغوط على تركيا هو إجراء الاستفتاء لمصلحة الانفصال في إقليم كردستان العراق، إضافة إلى الانتخابات الفيدرالية التي تقام في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي سوريا، والذي تعتبره تركيا خطراً على أمنها القومي باعتباره فرعا لتنظيم حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا”.

وفي مباحثات أستانة، وكذلك خلال المباحثات التي جرت في أنقرة بين الجانب التركي والوفود الأميركية والروسية والإيرانية، سعت تركيا إلى طمأنة الأطراف الأخرى بأنها سوف تسيطر على الوضع في إدلب وتقوم سلما أو حربا بتفكيك جبهة النصرة حسب تقدير آقبيق.

ويضيف “يبدو أن الحل التركي تمت الموافقة عليه مبدئيا من قبل الدول التي تُمارس فعليا الوصاية على سوريا بوجود جيوشها على الأرض وهي روسيا والولايات المتحدة وإيران. وتبقى الخطوات التركية القادمة تحت المجهر، فإذا لم يتحقق الهدف بتفكيك النصرة أو القضاء عليها، فإن الأمور سوف تعود إلى المربع الأول ويعود خيار الحرب الشاملة على إدلب مطروحا على الطاولة”.


صراع النفوذ بالمدينة

روسيا تريد تخفيض التوتر في إدلب، هذا كان مغزى اجتماعها الأخير في أستانة 6 مع الأتراك والإيرانيين. فقد توقع مركز عمران السوري للدراسات الاستراتيجية “تقسيم محافظة إدلب إلى ثلاث مناطق نفوذ: الأولى تمتد شرق سكة القطار على خط حلب- دمشق، وهي منزوعة السلاح وتحت الحماية الروسية، تواجه فيها القوات الروسية هيئة تحرير الشام.


الأولوية للتدخل العسكري غير المباشر عبر دعم فصائل سورية
والثانية بين السكة والأوتوستراد، وتتواجد فيها هيئة تحرير الشام، التي ستقاتل فيها التحالف الروسي التركي، ويسمح بنزوح المدنيين إلى المنطقتين الأولى والثالثة. والمنطقة الثالثة تمتد من الحدود التركية إلى أوتوستراد حلب- دمشق الدولي، وتخضع للنفوذ التركي من خلال هجوم بالتنسيق مع فصائل معارضة”.

ويؤكد آقبيق أن “إدلب هي حصة تركيا ولن تتخلى عنها بسهولة، ولن يدخلها الإيرانيون والنظام، ولا قوات سوريا الديمقراطية، في حال أوفت تركيا بتعهداتها في تفكيك جبهة النصرة”. إلا أن هذه الحصة التركية من الكعكة السورية ليست محسومة في المطلق، فلا يزال النظام السوري والطيران الروسي مستمرا في قصف تلك المنطقة.

ويرى المحلل السياسي السوري أحمد غنام “هذا دليل على أن روسيا وإيران لا تريدان أن تكون منطقة إدلب لقمة سائغة بيد الجانب التركي. بل ستسعى إيران وروسيا للحصول على الحصة الأكبر في محيط المحافظة”.

ولفت غنام إلى أن “هذا يعني بالضرورة أن المعركة ستكون من أجل تحديد نفوذ كل دولة من الدول الضامنة، وهو ما سيدفع بالجانب التركي إلى تقديم العديد من التنازلات في القضية السورية بمجملها، لكن مع رغبته في تعزيز نفوذه في إدلب من أجل المقايضة النهائية”. ويضيف “معركة إدلب بوجهيها السياسي والأمني هي المعركة الأخيرة التي ستحدد نفوذ ومواقع كل الدول المتداخلة في الشأن السوري وما تملكه من أوراق فعلية على الأرض. خاصة إذا أدركنا أن المعركة ضد داعش قاربت على نهايتها”.

ومن المتوقع أن تُشن ضربات جوية من التحالف الروسي التركي، ثم تتوغل القوات التركية في شمال إدلب لمواجهة المتشددين بدعم من الفصائل السورية، بينما تتقدم القوات الروسية في الجنوب.

ويقول المستشار الإعلامي لوفد المعارضة السورية في أستانة، يحيى العريضي “إن إطلاق جبهة النصرة لغزوتها في المنطقة التي شملها اتفاق التهدئة لإدلب يتسق مع رغبة النظام السوري وإيران، لأنهما لا يريدان لهذا الاتفاق أن يتم”.

ويؤيده في الرأي القيادي في لواء المعتصم التابع للجيش السوري الحر، مصطفى سيجري ويرى أن “عملية حماه العسكرية هي مجرد مسرحية جديدة على حساب دماء الفقراء”، وأشار إلى أن “أبومحمد الجولاني القائد العسكري للهيئة يسعى لإعطاء إيران مبرراً لنقض الاتفاق ويريد تسليم إدلب، كما حلب والموصل والرقة، فقد اعتقد الجولاني أن تركيا مرحَّبٌ بها، ولن يتمكنوا من مواجهتها، والشعب سيلتحم مع جنودها، فقرروا قلب الطاولة ونقض الاتفاق”.

ويلفت العميد الركن مصطفى الشيخ إلى أن” تركيا تعمل على تفكيك هيئة تحرير الشام ولكن في المقابل فإن إيران والنظام يسعيان لإفشال التدخل واستخدام الزمن لعودة إدلب إلى النظام وهذا اتضح في لقاءات النصرة مع الايرانيين والنظام في أبودالي مؤخراً، ما يثير مخاوف تركيا”.

ويشير غنام إلى أن “هناك مفاوضات حثيثة بين الجانب التركي والإيراني من أجل التنسيق بينهما والسماح لتركيا بلعب دور سياسي مؤثر لإقناع تلك الفصائل المتحالفة مع القاعدة والمتفاهمة في ذات الوقت مع الجانب التركي من أجل التخلي عن الهيئة والعمل على إضعافها، تمهيداً لتطهير إدلب من القاعدة وإخضاع بقية الفصائل والقوى للإرادة التركية”.

ويقول غنام لـ”العرب” إن “هناك تأثيرا كبيرا للجانب التركي لدى تلك الفصائل وخاصة أحرار الشام، دون استبعاد لاحتمالية العمل العسكري المحفوف بالمخاطر وهو ما يدفع الجانب التركي إلى التردد والحذر، مما يجعل موقفها عرضة للابتزاز من قبل الجانب الإيراني لكي يتم السماح للميليشيات التابعة للأخيرة بلعب دور عسكري في هذه المعركة المحتملة”. ويضيف “هذا ما سيدفع بالطرف التركي إلى استخدام فصائل درع الفرات المدعومة تركياً للتحرك باتجاه المعركة وبدعم لوجستي وميداني من قبلها، دون أن يكون هناك تورط تركي مباشر في إدلب”.


تداعيات الدور الإيراني

ستشارك طهران كدولة ضامنة للاتفاق مع تركيا وروسيا في إرسال مراقبين، حسب بيان أستانة 6، عبر الانتشار في نقاط التفتيش المؤمنة على حدود منطقة خفض التوتر في إدلب؛ لكن لا يبدو أنها راضية بالاكتفاء بهذا الدور.

وهناك مخاوف تركية من وجود إيراني على الحدود مع هيئة تحرير الشام في ريف حلب الغربي وريف حماه الشمالي، وقد تُقدم طهران غطاء إلى النظام للسيطرة على مناطق استراتيجية، خاصة ما يتعلق بتأمين أوتوستراد حلب- دمشق الدولي، تحت ذريعة محاربة النصرة.


منذر آقبيق: ورطة تركيا في إدلب نتيجة لخياراتها السابقة التي أدت إلى ظهور جبهة النصرة
ويرى الشيخ أنه “مع دخول النظام وميليشيات إيرانية إلى إدلب قد يعني إفشال كل الجهود الروسية التركية في سوريا نظراً لما تحمله إدلب من تعقيدات دولية وإقليمية ناهيك عن عشرات الآلاف من المقاتلين المدربين وبالتالي لا تفضل روسيا هذا السيناريو الخطر، والجميع في قلق ولا يمكن التكهن بدقة ما الذي سيحصل بإدلب والشمال السوري”.

ويضيف الشيخ “إدلب تعتبر أقوى ورقة لدى تركيا جغرافياً التي تمنع من وصول الأكراد إلى البحر”. ويقول “تركيا في موقف دولي صعب خاصة بعد تدهور العلاقات بينها وبين أوروبا والولايات المتحدة، فهي مترددة تجاه أي تدخل إن كان في العراق أو سوريا وستجد نفسها وحيدة في الميدان بعد تحقيق مصالح عدوتها الاستراتيجية إيران”.

فعبء المعركة هذا لا تطيقه تركيا، وبالتالي باتت تقع عليها مهمة العمل على عدة مسارات: أولها التنسيق مع فصائل إدلب، وقد عينت ضباط ارتباط في الداخل تابعين لها، وسيساعدها في ذلك لجهة أنّ تدخلها يحظى بتأييد معظم تلك الفصائل، كما تحظى أيضاً بتأييد شعبي يريد التخلص من حكم الهيئة ويريد أيضاً أن يتجنب عبء الحرب والمزيد من القتل والدمار.

ويرى النقيب عمار الواوي أحد مؤسسي الجيش السوري الحر أن “تركيا تدرس جميع الاحتمالات بينما تحشد قواتها على الحدود السورية”، ويقول لـ”العرب”، “لا أعتقد أنها ستتدخل بشكل مباشر كما تدخلت في جرابلس والراعي وذلك لأسباب كثيرة أهمها أنه توجد في إدلب وريفها قوات أخرى غير متطرفة ومقربة من تركيا، لذلك ستعتمد تركيا عليها في أي تدخل عسكري مع دعم عسكري ولوجستي تركي”.

ولا يشعر الواوي بقلق من تدخل النظام السوري عسكريا في إدلب، ويستبعد أنه سيسمح لقوات النظام بالدخول إلى أجزاء من إدلب لأنه سيلاقي مقاومة عسكرية وشعبية من قبل جميع الفصائل المتواجدة هناك”.

وثانياً بسبب ضغط هيئة تحرير الشام لأجل التهدئة، وضمان عدم حصول اختراق لوقف إطلاق النار، وضمان سلامة مراقبيها في المنطقة.

وثالثاً عليها العمل على إضعاف الهيئة وتفكيكها من الداخل، عبر استمالة الفصائل المنضوية ضمنها للانشقاق، وبالتالي عزل النصرة وإضعافها. وهذه المهمة ممكنة، طالما أن ميزان القوى سيكون ضد هيئة تحرير الشام فور إعلان بدء تنفيذ الخطة.

ويؤيد الناشط العزو التوجه التركي نحو تفكيك النصرة إذ يرى أنه “سيخرج المتشددون وسيبقى السوريون، فليس كل من في الهيئة مؤدلجين متطرفين، وقد رأينا كيف تم إنهاء فصيل جند الأقصى، وبالمثل كانت جماعة أحرار الشام مؤسسة ضخمة ولها مكاتب متعددة، لكنها انهارت خلال يومين، وأعيد تجميعها مجدداً”.