يتّفق عدد كبير من الاقتصاديين والمراقبين للأوضاع اللبنانية على أن سلسلة الرتب والرواتب والضرائب الملحقة بها تشكّل قرارًا بإعدام الاقتصاد اللبناني، لاسيما لجهة وضع ضرائب على قطاع عقاري منهار أصلًا، وبإلزام المدارس الخاصة بأعباء إضافية ناتجة عن رفع أجور الأساتذة إلى حد بات يهدد مصير هذه المؤسسات برمتها.
 
ويتّفقون على أن هذه السلسلة تشكّل ضغطًا هائلًا على سعر صرف الليرة اللبنانية التي تكبّدَ الاقتصاد اللبناني مليارات الدولارات لتثبيت سعرها. ويتوقعون في حال انهيار الليرة خلال الأشهر المقبلة إفلاسات تطال بعض المصارف والشركات الكبرى. كما أن هذه السلسلة شكّلت ضغطًا إضافيًا على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتسبّبت باستياء غير مسبوق في تاريخ الجمهورية اللبنانية لدى المؤسسة القضائية.
ومن الناحية الاجتماعية، لم تستطع الحكومة اللبنانية تبرير وضع ضرائب على القطاع الخاص والشعب اللبناني بمجمله لتمويل رواتب موظفي القطاع العام، فيما يعتبر الرأي العام اللبناني أن هذا القطاع غير منتج ومنتفخ الحجم وتسوده المحسوبيات والفساد. وخير مثال على ذلك، وبخاصة على أن الزيادات المخيفة مرتجلة وغير مدروسة وغير عادلة، هو الزيادات المخصصة لموظفي إدارة سكة الحديد غير الموجودة أصلًا.
ولأول مرة في تاريخ الجمهورية، يُقرُّ قانون يُلحَقُ به فورًا ثمانية تعديلات لم تكفِ لإسكات المعارضات على قانون السلسلة، إبتداء من الطعن أمام المجلس الدستوري بقانون الضرائب وليس انتهاء بموقف دار الإفتاء من مسألة دوام العمل يوم الجمعة، هذا فضلًا عن اعتراض القضاة والتصعيد المرتقب لأساتذة الجامعة اللبنانية، ونقابة المحامين، وتلويح المدارس الكاثوليكية بعدم بدء العام الدراسي في موعده، نظرًا لما تعتبره استهدافًا مباشرًا لحضورها ودورها وتأليب الرأي العام ضدها بسبب الزيادات الناتجة عن قانون السلسلة على الأقساط المدرسية التي كان الأهل أساسًا يعانون من تضخّمها وعدم قدرتهم على إيفائها.
فكيف تمت فبركة هذه السلسلة المعجزة التي أثارت العديد من المشاكل الخطرة المهددة للاستقرار الوطني والاجتماعي والميثاقي؟
ما لا يشك به أحد من اللبنانيين هو أن هذا المجلس النيابي بالذات، الممدّد لنفسه مرتين حتى الآن، يضم طاقات فكرية وثقافية وتشريعية فذة يغار منها ميشال شيحا وفؤاد افرام البستاني ويوسف السودا وكميل شمعون وريمون إده وحسن الرفاعي. ويتجلّى ذكاء هذا المجلس بِانعدام التشريع في ما عدا قانون الإيجارات الذي لم يتمكّن بعد أي رجل قانون من فهمه، وقانون الانتخاب الذي شكّلت له لجنة وزارية لمحاولة فهمه أيضًا، ولكن من دون نتيجة وتسريبات حول وجوب تعديله ليصبح مفهومًا وقابلًا للتطبيق. والمأثرة الأخيرة التي تسجّل في سجل هذا المجلس النابغة قانون سلسلة الرتب والرواتب وقانون الضرائب الملحق به.
والقصة الحقيقية، بحسب هؤلاء الخبراء والمراقبين، لا يمكن أن تكون إلا على الشكل الآتي، وإلا وجب اتّهام الموساد الإسرائيلي بالتخطيط لهذه المؤامرة الكبرى. أما القصة فهي:
- كتلة نيابية عونية تميّزت بالنقص في إبداعها وطروحات غالبًا ما خرجت عن المألوف، فكانت أشبه بمشاغبين في صف ابتدائي منها إلى كتلة نيابية في مجلس تشريعي. وكان يحدّ من شططها، في طلب زيادات السلسلة والضرائب، كتلة المستقبل التي كانت تُتّهم بالمقابل بالفساد والاستيلاء على المال العام، قبل أن تتحوّل إلى حليف يبصم على العمياني مرتبط بملفات تخص الأمن القومي الكهربائي والمصرفي-المتوسطي والاتصالات.
- كتلة رئيس مجلس النواب التي تدور كالأَجرام في فلك كوكب رئيسها صاحب الشخصية الكاريزماتية كأنه أستاذ صف في ابتدائية رسمية في إحدى القرى النائية المحرومة.
- كتلة حزب الله التي اتّهمت يومًا أنها تحضّر ملفاتها، فهي منكّبة على الصراع العالمي لإسقاط الهيمنة الإمبريالية وضرب النفوذ الأميركي-الصهيوني في الشرق الأوسط والعالم، من دون تضييع الوقت في سخافات التشريع المحلية.
- أما كتلة جبهة النضال فمنكبة على وضع أوسكار النفسي وهموم مهرجانات بيت الدين.
- كتلتا الكتائب والقوات اللبنانية الخارجتان من التاريخ حيث توقّفت عقارب الساعة في أيلول سنة 1982، تبحثان عن شهادة عفاف من شبهة سرقة المال العام وعن طريقة حذف كلّ واحد منهما الآخر.
تفاجأت الكتلة النيابية العونية بوصول العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة فلم يعد باستطاعتها الرجوع عن طروحاتها الشعبوية المتعلّقة بالزيادات الجنونية للرواتب، لا سيما على عتبة موسم انتخابي. وفي الوقت نفسه، اعتبرت وباقي الكتل النيابية أن موظفي القطاع العام يدينون بالولاء السياسي للطبقة الحاكمة ولا بد من دفع رشوة لها. بَصَمَت كتلة نواب المستقبل على هذا القانون الانتحاري، ولو أن أحد أعمدتها حذّر من أنه "بداية الانزلاق الكبير"، ومثل اللاعب الماهر ميسي ركل رئيس المجلس كرة السلسلة الحارقة، وأدخلها في مرمى رئيس الجمهورية من دون أن يتمكّن فريق القصر العبقري من أن ينصحه بمخرج إنقاذي أو إقناعه بوجوب ردّها، رغم الوعود التي قطعها رئيس الجمهورية للقطاعَين المصرفي والتربوي بأنه سيرد القانون إلى مجلس النواب.
وكان رئيس المجلس المطمئن الوحيد إلى أن رئيس الجمهورية سيوقع قانون السلسلة. وهذا الاطمئنان لغز بحد ذاته.
ويضيف هؤلاء المراقبون المحنّكون أنه ما لم تأتِ مساعدة مالية للبنان في الأشهر القليلة المقبلة -وهذا ضرب من المعجزات في ظل انسياق لبنان الكامل لمحور الممانعة- أو اجتراح معجزة ما، أو التراجع عن قانون السلسلة، فإن انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، سيكون حتميًّا، وسيطيح بالتيار الوطني الحر، كما أطاح انهيار الليرة في العام 1985 بحزب الكتائب، وستصبح صورة الرئيس العماد ميشال عون في ذهن العامة شبيهة بصورة الرئيس الشيخ أمين الجميّل.