خطوة الصدر بزيارته السعودية في هذا التوقيت يمكن أن تساهم إلى حد كبير في إبراز الهوية الشيعية العربية، وهي حاجة ضرورية لإعادة ترميم الوطنية العراقية في الحد الأدنى
 

يمثل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر تيارا عراقيا لا يستهان به داخل المكون الشيعي العراقي، وربما يكون الوحيد في حجمه، شيعيّا، الذي يلقى قبولا نسبيا وتعاطفا داخل البيئة السنية العراقية ولدى الأكراد، وهذا ما يجعله رغم العديد من الملاحظات والاعتراضات على تياره مقبولا رغم انخراطه في بعض المراحل بصراعات دموية وتصفيات أخذت طابعا مذهبيا، كما أن الصدر كان في المحطات الاستراتيجية في موقع المنسجم مع التطلعات الإيرانية في العراق، رغم أنه الوحيد من القيادات العراقية المحسوبة على إيران لم تكن له أي صلة بالاحتلال الأميركي وكان ملاحقا في بعض المراحل، ولجأ إلى إيران أكثر من مرة.

إشكالية مقتدى الصدر وتياره تطرح مجددا في العراق وعلى مستوى الإقليم، بعد الزيارة الأخيرة له إلى المملكة السعودية، وإثر لقائه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان نهاية الشهر الماضي، وهذه الإشكالية تتركز في أبعاد هذا اللقاء لا سيما بعد القمة الإسلامية الأميركية التي عقدت في الرياض خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل نحو شهرين، والتي حددت هدف إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، فهل لزيارة الصدر علاقة بهذا التوجه، وهل يمكن أن يكون الصدر منسجما مع هذا التوجه أم أن الزيارة لا تتعدى التعارف بين الرجلين؟

لم يسلم زعيم التيار الصدري من حملة اتهامات شُنت ضده من قبل منابر تنتمي لتيار ولاية الفقيه، وإن لم تتعد هذه الانتقادات حملات التحريض إلى مواقف صادرة عن زعامات وقيادات عراقية، حيث اقتصرت ردود الفعل السلبية على الزيارة بحدود الحملات الإعلامية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. ولكن الصدر الذي عاد من زيارة السعودية عمد مباشرة إلى دعوة مناصريه إلى الخروج في تظاهرات احتجاجية ضد قانون الانتخاب، وقد استجابت معظم مراكز المحافظات العراقية لهذه الدعوة رغم القيظ، ونجح الصدر في استعراض قوته بحيث استطاع حشد مئات الآلاف في كل العراق، في خطوة يدرك معظم القيادات العراقية أنه الوحيد الذي يستطيع حشد هذه الأعداد بين أقرانه من الزعامات الحزبية والقيادات العراقية من مختلف الاتجاهات.

يمكن القول إن خطوة مقتدى الصدر تجاه الرياض تعكس في جانب محوري منها محاولة للبحث عن حيّز عراقي مستقل، لا سيما بعدما نجحت إيران في مصادرة المكون السياسي الشيعي إلى حد كبير، وبعدما تحول العراق إلى دولة من أسوأ نماذج الدول الفاشلة، وبعدما تعرض لأكبر عملية نهب لمقدراته، ولإدراك عميق لدى العراقيين لا سيما الشيعة منهم، أن القيادة الإيرانية لم تكن مهتمة بعملية النهب التي طالت العراق لا سيما من قبل حلفائها الذين حكموا العراق عشية الخروج الأميركي وبعده، وهي المرحلة التي كشفت عن تورط رموز السلطة الذين تحميهم إيران في الفساد وفي تقويض مئات المليارات من الدولارات، ويشكل نموذج رئيس الحكومة السابق نوري المالكي مثالا حيا على هذا الصعيد.

وتفتح زيارة الصدر إلى السعودية نافذة لإعادة الاعتبار للانتماء الوطني العراقي في بعده العربي، وهذه النافذة تتطلب إرادتين واحدة عراقية والأخرى عربية. ذلك أن الدول العربية عموما والخليجية على وجه الخصوص، لم تكن منهمكة في المثابرة على إعادة الاعتبار لدور العراق عربيا، قصارى ما اهتمت به هو التشهير بالنفوذ الإيراني من جهة، ومحاولة إظهار مظلومية السنة في هذا البلد من جهة ثانية، وبالتالي الوقوف كشاهد على تدمير العراق وهو في المحصلة لم تكن أضراره إلا على العراق نفسه ومحيطه العربي الذي خسر دولة كان يمكن أن تكون ظهيرا عربيا وسط تكالب الدول على المنطقة العربية.

خطوة مقتدى الصدر والتجاوب السعودي يفتحان هذه النافذة، لكنها خطوة تتطلب جهودا مضنية لإعادة بناء جدار الثقة وهو ما لا يمكن قيامه من دون الانهماك في بلورة رؤية عربية نهضوية لردم الهوة التي صدعت البنيان العربي، وهي الهوة التي هزت وشققت الإجماعات الوطنية والقومية، أي المسألة المذهبية وامتداداتها على مستوى الإرهاب والاستبداد.

المسألة التي تثيرها خطوة الصدر بزيارته السعودية في هذا التوقيت، هي كونها ستساهم إلى حد كبير في إبراز الهوية الشيعية العربية، وهي حاجة ضرورية لإعادة ترميم الوطنية العراقية في الحد الأدنى، وما يدفع إلى التفاؤل الحذر على هذا الصعيد أنّ مقتدى الصدر يمكن أن يشكل رافعة لهذه الهوية التي صار شرطها اليوم التمايز عن الهوية الشيعية الإيرانية التي فرضت نفسها في المنطقة العربية عبر ولاية الفقيه، ونجحت إلى حد بعيد في التمدد والنفوذ ليس بقوتها المادية والعسكرية فحسب، بل عبر استثمار لخطاب بعض التيارات السنية التي لم تستطع النظر إلى أزمة العراق إلا باعتبار أن ما حصل بعد سقوط نظام البعث، هو هزيمة سنية وانتصار شيعي، وهذا كان أحد أهم وسائل التمدد الإيراني الذي كان دوره تقديم نفسه باعتباره حامي الشيعة وضمانتهم في مواجهة السنة العرب.

من هنا تشكو المرجعيات العربية الشيعية في العراق، وعلى رأسها مرجعية السيد علي السيستاني، من إدارة الظهر التي اعتمدها النظام العربي عموما تجاه العراق الذي نشأ بعد الاحتلال الأميركي وبعد خروجه أيضا، وتم التعامل معه باعتباره أرضا إيرانية، هذه السياسة وهذا السلوك العربيين فاقما من سلب إرادة الشعب العراقي ومن تهديد وحدته. من هنا فإن العالم العربي كان شاهدا ومساهما في تدمير دولة العراق ولو من باب اعتبار ما يجري في العراق لا يعني الدول العربية ولا يهددها. لكن الوقائع اليوم أظهرت كم أنّ دمار العراق وضعف دولته ووحدته باتا مصدر تهديد لكل مكونات المنطقة العربية ليس في البعد القومي فحسب، بل في الأبعاد الوطنية، وبالتالي فإن أي خروج من حال التفتت ومخاطر الانزلاق يتطلب إرادة عربية تنظر للمكون العربي ودوائره الوطنية باعتبارهما نظام مصالح مشتركا يجب حمايته وتحصينه.

زيارة الصدر إلى السعودية تفتح نافذة إيجابية على المستقبل. إن معركة العراق اليوم هي في إعادة ترميم الهوية الوطنية، وللسعودية دور مساعد إذا ما ساهمت في تدعيم هذا الخيار عبر نبذ كل ما يتصل بخيارات تساهم في تعميق الشرخ بين العراقيين، فالرياض يمكن أن تكون أمام فرصة تاريخية إذا أحسنت التعامل مع هذه الدولة الجارة، ومقتدى الصدر بما يمثل على مستوى الهوية الوطنية والعربية يمكن أن يندفع نحو المزيد من الذهاب في هذا الخيار، ذلك أنّ تجارب الصدر رغم ما يميزه عن أقرانه من القيادات العراقية تفيد بأنّه لا يستند في نفوذه إلى الدعم الإيراني وأنّه رجل سياسي وبراغماتي بامتياز، فهو لن يتردد للحظة إلى العودة إلى الكنف الإيراني أو الانكفاء إذا وجد أنّ جيران العراق العرب غير مبالين فعليا بدعم مشروع وحدة العراق، وغير مبالين بردم الهوة المذهبية التي تتطلب مبادرات عربية تظهر أنّ طي المذهبية هدف استراتيجي وليس تكتيكا تفرضه وقائع مرحلية وآنية.