تقييم ثلاث سنوات من الحرب على تنظيم داعش في العراق من خلال الاكتفاء بإحصاء الخسائر البشرية والمادية، وتعداد التجاوزات والجرائم التي اقتُرفت خلالها، لن يخدم الحقيقة إذا أهمل تحديد المسؤوليات السياسية عن فتح الباب للتنظيم المتشدّد وتوفير الظروف المناسبة له لاحتلال ما يفوق ثلث مساحة البلد وما نجم عن ذلك من أضرار لجميع العراقيين وإن بدرجات متفاوتة
 

أطلقت نهاية المواجهات الرئيسية التي خاضتها القوات العراقية المدعومة من التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش في أهم معقل له بالعراق، مدينة الموصل مركز محافظة نينوى، حديثا متوقّعا عن حصيلة المعركة من ضحايا بشرية وخسائر مادية، ومن تجاوزات وجرائم اقترفتها مختلف الأطراف المشاركة في الحرب.

غير أنّ “جردة حساب” المعركة تظلّ في نظر طيف واسع من العراقيين منقوصة إذا لم تتطرّق إلى تحديد المسؤوليات السياسية عن سقوط هذه المدينة العراقية الكبيرة بيد تنظيم داعش صيف سنة 2014، وما تبع ذلك من متوالية من المآسي مسّت شرائح واسعة من العراقيين الذين احتل التنظيم المتشدّد مناطقهم في محافظات الأنبار وكركوك وصلاح الدين وديالى، وصولا إلى محافظة بابل بجنوب العاصمة بغداد.

ولم يتعرّض سكّان تلك المناطق لتنكيل تنظيم داعش، فحسب، بل تحمّلوا أكثر من ذلك تبعات الحرب على التنظيم داخل مناطقهم وما نجم عنها من خسائر في الأرواح ودمار في البُنى والممتلكات الخاصة والعامة، فضلا عن تشرّد الملايين من الناس فرارا من الحرب إلى مخيمات نزوح تفتقر إلى أدنى مقوّمات العيش.

وفي الكثير من الأحيان لم يكن المتصدّون لداعش من قوات نظامية عراقية وتحالف دولي وميليشيات شيعية أرحم للسكان من التنظيم نفسه، بحسب هيئات ومنظّمات دولية.

وحتّى في حالة عدم التعرّض بشكل مباشر لأضرار ثلاث سنوات من الحرب، يمكن اعتبار جميع العراقيين في مختلف المناطق متضرّرين من تلك الحرب التي صرفت عليها مبالغ طائلة، كان من الأجدر أن تصرف على التنمية وتوفير الضروريات وإصلاح البنى التحتية المهترئة.

وبحسب الكثير من العراقيين فإنّ هناك عنوانا واضحا للمسؤولية عن دخول تنظيم داعش إلى العراق واحتلاله ما يفوق ثلث مساحته، وهو رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي انتشر الفساد بشكل غير مسبوق خلال فترتي حكمه بين سنتي 2006 و2014، ولم تُستثن من ذلك الفساد المؤسسة العسكرية والأمنية من خلال الصفقات الفاسدة وظاهرة “الفضائيين”، أي الجنود الوهميين الذين يتقاضون رواتب دون أدنى مشاركة في الخدمة الفعلية، وقد تجاوز عددهم في عهد المالكي الخمسين ألف فضائي.

ويفسّر ذلك الانهيارَ المريعَ للجيش العراقي أمام زحف بضع مئات من عناصر تنظيم داعش.

جميع العراقيين ضحايا الحرب على داعش.. من لم يتضرر منها بشكل مباشر ساهم في تسديد فاتورتها المالية الباهظة
كما أن لرئيس الوزراء السابق مسؤولية كبرى في إضعاف الوحدة الاجتماعية وتوتير العلاقة بين مكوّنات المجتمع باتباع سياسة طائفية تمييزية جعلت أعدادا من العراقيين قابلين للاختراق من قبل داعش وتبني أفكاره المتشدّدة واحتضانه والقتال إلى جانبه كنوع من ردّة الفعل.

ويخشى العراقيون من أن تظل جريمة التسبب بإدخال داعش إلى العراق منسوبة إلى “مجهول” ما سيمنع إقامة العدالة للمتضرّرين، إذ لا محاسبة دون تحديد دقيق للمسؤوليات.

ويرى الكثيرون أن للمالكي من القوّة السياسية والمالية ما سيجعله يفلت بالفعل من المحاسبة والعقاب. ومع الإعلان الرسمي لنهاية معركة الموصل بدأ التركيز على الجرائم التي اقتُرفت خلال المعركة.

وقالت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها نشرته الثلاثاء، إنها رصدت نمطا للهجمات التي قامت بها القوات العراقية والتحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة الذي دعمها في معركة استعادة الموصل بما ينتهك القانون الدولي الإنساني وربما يصل إلى جرائم حرب.

وأضافت المنظمة في تقرير أن تنظيم داعش ارتكب انتهاكات صارخة للقانون نفسه من خلال تعمد تعريض المدنيين للأذى لحماية مقاتليه وعرقلة تقدم القوات العراقية وقوات التحالف.

وأشارت المنظمة إلى أن القوات العراقية وقوات التحالف نفذت سلسلة من الهجمات التي تخالف القانون في غرب الموصل منذ يناير الماضي معتمدة بشدة على قذائف صاروخية بدائية الصنع ذات قدرة محدودة على التصويب ما ألحق دمارا بمناطق ذات كثافة سكانية عالية.

وقال التقرير “حتى في الهجمات التي يبدو أنها أصابت هدفها العسكري المنشود أدى استخدام أسلحة غير مناسبة أو عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة إلى خسائر في الأرواح بين المدنيين دون داع”.

وانتقدت المنظمة أيضا تنظيم داعش لارتكابه مجموعة من الجرائم التي تم توثيقها.

وقالت إن المتشددين جمعوا السكان في القرى والأحياء محل النزاع وأجبروهم على الانتقال إلى مناطق الصراع في غرب الموصل لاستخدامهم كدروع بشرية. وأضافت أنه مع اقتراب الاشتباكات حاصروا المدنيين داخل المنازل وحرموهم من الحصول على الطعام والرعاية الطبية.

وذكر التقرير أن التنظيم المتشدد قتل المئات، إن لم يكن الآلاف، دون محاكمة، من الرجال والنساء والأطفال الذين حاولوا الهرب وعلّق جثثهم في أماكن عامّة.

واعترفت المنظمة بالتحديات التي تنطوي عليها حماية المدنيين في ظل الأساليب التي يستخدمها المتشددون، لكّنها حمّلت السلطات العراقية والتحالف الدولي المسؤولية عن عدم اتخاذ احتياطات عملية لحماية المدنيين من الضربات الجوية.

وقالت إن إسقاط المنشورات التي تحذر من الهجمات بلا جدوى لأن داعش فرض قيودا شديدة على حركة المدنيين.

ولا تسجل الحكومة العراقية ولا التحالف الدولي أعداد القتلى من المدنيين. ورجحت المنظمة أن عدد القتلى في غرب الموصل وحده في الهجمات التي شنتها القوات الموالية للحكومة أعلى من الرقم الذي قدّرته جماعة المراقبة “إيروورز” ويبلغ حوالي 3706 قتلى.

وقال التقرير ربما لن تتسنى أبدا معرفة العدد الحقيقي للقتلى في معركة غرب الموصل.