تمهيد: اجتاحت إسرائيل لبنان في حزيران عام ١٩٨٢، وقلبت أموره رأساً على عقب، أخرجت المقاومة الفلسطينية، وهيّأت لمجزرة صبرا وشاتيلا، ومهدّت الأرض أمام قوات حافظ الأسد لاجتثاث الفلسطينيّين من البقاع وطرابلس، ونصّبت رئيساً للجمهورية ما لبثت أن ساعدت في اغتياله، وأدخلت البلد في طورٍ جديد من  الحرب الأهلية أكثر ضراوةً وعنفاً تحت الوصاية السورية المُجازة دولياً وإسرائيليّاً، إلاّ أنّ أخطر ما تمخّض عنه هذا الاجتياح ،وما زالت تداعياته ماثلة حتى اليوم ، هو انكفاء تيار الحركة الوطنية اللبنانية وتقدُّم الفكر الديني والطوائفي والمذهبي ليملأ الساحة السياسية والعقائدية والفكرية، مُتجلّياً بالطوائف ورموزها، وقد كان لهذا الفكر ،قبل الاجتياح الإسرائيلي ألقُه ومشروعيّته وحيزاً من المصداقية، فانحرفت (مع نيران الحرب الأهلية) جماهير واسعة من مختلف الأجيال لتلتحق بركبه،وتنغمس بتجاربه، وتنعم بمكتسباته، وتكتوي بنيرانه .
 
أولاً:  أفول المبادئ الماركسية والقومية...
حاول الفكر الماركسي أن يحتفظ ببعض مواقعه التي فقدها أثناء الاحتلال الإسرائيلي ، مُصرّاً على مصداقية طروحاته، ونُبل مقاصده، وشرف تضحياته، إلاّ أنّ ذلك ذهب ،وللأسف هباءً منثورا. أمّا الأفكار القومية ، العربية والسورية، فقد جاهدت لتبقى حيّةً في النفوس، حاضرة بأحلامها الوحدوية والاشتراكية وخلود الأمة العربية والسورية، إلاّ أنّ ذلك ظلّ محصوراً في أروقة المنظمات الحزبية وشعاراتها الفارغة من مضامينها، وذهبت "النضالات" والأحلام والأماني إلى غير رجعة على ما يبدو.
ثانياً : قانون الانتخاب ورحلة الضياع...
ما زالت حالة التشرذم والانقسام والضياع حاضرة رغم مرور ما يقرب من عقدين على انسحاب إسرائيل، حتى قانون انتخاب جديد لا يُمكن التوافق عليه، وكيف لا، وقد فقد الجميع اليوم ألقه ومصداقيّته ووطنيته وعروبته ، وبات الجميع، ودون استثناء في خضم فوضى معنوية لا مثيل لها، وداخل متاهاتٍ لا قرار لها ولا منافذ، إنّها رحلةُ الضياع التام، والكفر بمبادئ الأحزاب وانهيار المعتقدات اللاهوتية، إنّه زمن الطوفان الطوائفي، ولا جبل يعصم من مياهه، ولا سفينة نجاة، ولا مُجمّع، حيث يفصلنا عن قُصي بن كلاب حوالي ستّة عشر قرناً على الأقل.  
هامش: قصي بن كلاب، أول بني كعب بن لؤي أصاب مُلكاً أطاعه له به قومه، أي قريش، فكانت له :الحجابة ،والسقاية، والرفادة، والنّدوة، واللواء، فحاز شرف مكّة كلّه، فسمّتهُ قريش مُجمّعاً لما جمع من أمرها.