يفتح المراهق، ابن الـ17 سنة، صندوق السيارة الرباعية الدفع، وهو يخبر كيف انه ووالدته واخته حملوا والده اسماعيل علي زعيتر، ضحية جريمة الثأر التي وقعت ظهر اليوم في رياق، الى السيارة ووضعوه مضرجا بدمائه في صندوقها ونقلوه الى المستشفى. ينزع بعضا من الدم اليابس، ويقول، وهو يفتته بين ابهامه والسبابة، "هذا دمه"، الدم نفسه الذي لا يزال يلطخ جانبا من وجه المراهق، وذراعه وثيابه، عائدا من المستشفى يتيم أب لم يتسنّ له ان يتعرف اليه. فقد كبر المراهق بعيدا عن والده، وهو كان ابن 6 سنوات يوم دخل اسماعيل السجن عام 2006، انفاذا لعقوبة من 14 سنة لقتل ابن خاله صادق زعيتر. أمضى منها 11 سنة، وخرج قبل اقل من شهرين ليستأنف اسماعيل حياته مع عائلته المؤلفة من زوجته وابنة وثلاثة ابناء، بعدما أدى "جزاءه" عن جريمته بعرف قانون الدولة، ولكنه كان يتوجب عليه ان يدفع حياته ثمنا لها بعرف العشائر.

هو ليس مشهدا من مسلسل رمضاني، يخبر ابطاله وبطلاته، بطلعاتهم البهية وشعرهم المصفف، وهندامهم الانيق، فنكاد نشتم روائح عطورهم من الشاشة، عن حياة العشائر وعاداتها في سياق فني، انها الحقيقة البشعة، لقانون الثأر لدى تلك العشائر الذي يهدر الدماء، ويهدر هيبة الدولة ويسخر من كل قوانينها وعقوباتها. دماء تجرّ دماء، قتل وقتلى حتى تكاد تتوه وانت تحاول ان تلحق مذهولا بالرواية التي اوصلت المغدور الى حتفه من على لسان ابنته زينب. اسماعيل قتل ابن خاله صادق، واخوة صادق وابنه متهمان اليوم بقتل ابن عمتهم اسماعيل ثأرا، ويوم قُتِلَ صادق على يد اسماعيل كان شقيق الاخير مقتولا. وعلى ذمة رواية زينب فان اسماعيل كان قد ذهب الى ابناء خاله ليسألهم لماذا قتلوا اخيه، فلاقاه اثنان، بينهما المغدور صادق، وفي يد احدهما رشاش، فظن اسماعيل "وهو كان متعاطيا" انهما سيقتلانه، فأطلق النار في اتجاههما وأردى صادق.

الحقيقة البشعة لجريمة الثأر، توثقها دماء اسماعيل المتناثرة على الحائط، الذي يحمل آثار اولى الرصاصات التي تلقاها في الطبقة الثانية من المبنى الذي يقطنه وعائلته، في شقة في الطبقة الرابعة، في بلدة رياق. مرعب محاولة تصور هلع اسماعيل، مصابا نازفا، وهو يسعى للنجاة بحياته، محاولة فراره يرسمها سيل دمائه على السلالم وصولا الى خارج المبنى مستميتا للوصول الى سيارته التي كان قد ركنها عائدا للتو مع زوجته من زحلة، قبل ان يقع في مكمن قتلته الذين لحقوا به برصاصهم، الى ان قاموا بتصفيته على مرأى من الجيران "رصاصة في الرأس وأخرى في الفم" تقول زينب.

واذا كانت ابنة الـ20 سنة، التي لا يتوقف جسدها ووجهها عن الارتعاد الا لتنهمر دموعها، لا تفهم لماذا قتلوا والدها فيما "نال جزاءه 11 سنة مسجونا"، الا انها لا ترغب في الثأر لدم والدها، بل ما تريده هو ان تتوقف حلقة الثأر، التي كادت ان تودي بعميها سابقا في محاولة فاشلة للثأر لصادق. تريد العدالة بسجن قتلة والدها، وتريد ان تعود هي وعائلتها "بحماية الدولة وبموافقة اهل صادق" الى بلدتهم التي اضطروا الى مغادرتها يوم قتل والدهم صادق. ولكن ماذا عن المراهق ابن الـ17 سنة؟ من يعيد اليه ثقته بالقانون والعدالة؟ من سيغلب لديه لغة العقل ومنطق الدولة على لهجة "هدر الدم" وعرف "الاخذ بالتار"؟ هو الذي كان يقف وحيدا، مع اخته، لا سند ولا رجل يقف بجانبهما، وسط دماء والديهما، يحرص عناصر قوى الامن الداخلي على الا تدوسها جمهرة الصحافيين والجيران والفضوليين فيفسدوا مسرح الجريمة. في جرائم الثأر، التي يفترض ان من ينفذها يثبت رجولته امام عشيرته، فيحتفي به ذكور آخرون منها باطلاق النار ابتهاجا، يلوذ "الرجال" من كلا الطرفين بالفرار، يتوارون في المخابئ، ويتركون الساحة للنساء والمراهقين والاطفال، ليترافق ظهورهم من جديد مع مسرح جريمة آخر للدولة المغدورة.