من سيّئٍ الى أسوأ، هكذا يمكن وصف بيئة لبنان الملوّثة والتي تهدّدنا جميعاً برّاً وبحراً وجوّاً. ولعلّ مياه بحرنا، هي من أبرز ضحايا التلوّث التي يمكن أن تسبّب لنا مشكلات طبّية خطيرة.عندما نتذمّر من الأسعار المرتفعة للمسابح الخاصة، ينصحك الجميع بالتوجّه الى الشواطئ العامة. «طيّب، عال»، هذه النصيحة واقعية وعملية. ولكن قبل هذه «الخطوة»، قرّرت «الجمهورية» الاستفسار عن وضع بحر لبنان ونظافته ومخاطره على صحة الانسان، لنتفاجئ بكمّ هائل من الأمراض التي يمكن أن تصيب الشخص بمجرّد لمسه مياه البحر!

تقول الاختصاصية في الأمراض الباطينية والطبّ الشرعي الدكتور باسكال أبو سليمان عن سبب ازدياد تلوّث بحرنا نسبةً للدراسات التي أُجريت حديثاً، «شو تغيّر»؟ المشكلة أنّ الناس يعتبرون الامور التي لا يرونها، غير موجودة. صحيح أنّ ملفّ النفايات غاب عن العلن في الفترة الأخيرة، ولكن هل انحلّت المشكلة؟ كلّنا نعلم أنّ المكبّات العشوائية التي لا تُحصى ولا تُعدّ ما زالت منتشرة.

وإزاء هذا الوضع، فإنّ التلوّث يتزايد أكثر فأكثر، خصوصاً مع غياب هيكليّة مهنية لتنظيم هذه الأمور. فهل سمعتم مثلاً بتشكيل لجنة معيّنة مؤلفة من اختصاصيين لمعالجة المياه، أو أخذ عيّنات المسابح الخاصة؟ وهل تمّ إقفال أيٍّ منها لعدم استيفائه الشروط المناسبة؟ وقد تفاقمت مشكلة تلوّث المياه جرّاء أزمة النفايات، ما نتج عنها تسرّب المواد الكيميائية عالية السمّية، والمعادن الثقيلة وغيرها من المواد الى مياهنا، والتي تحتاج الى آلاف السنين لكي تزول من تربتنا وهوائنا ومياهنا».

نتائج «مخيفة»

لا تبدو الدولة مهتمّة بصحّة أبنائها، فما زالت المبادرات فردية من قبل بعض الجامعات التي قامت بدراسات لم تنشر بعد، وفحصت عيّنات من بعض مياه لبنان، والتي كانت نتائجها «مخيفة». وتقول د. أبو سليمان «في مياه لبنان نوعان من التلوّث: التلوّث الكيميائي والبيولوجي الذي يحتوي على البكتيريا والفيروسات والطفيليات، نتيجة اختلاط فضلات الانسان والحيوان بالمياه، ورمي النفايات فيها. اضافةً الى التلوّث غير المباشر من خلال المجارير التي تصبّ في البحر».

حال طوارئ

ومن جهة أخرى، تحمل عصارة النفايات التي تُرمى في البحر، مواد كيميائية سامة، خصوصاً أنه لا يتمّ تكريرها بحسب القواعد العالمية السليمة والآمنة. إضافةً الى بقايا مساحيق التنظيف المنزلي، وزيوت السيارات والفيول، والمعادن الثقيلة كالزرنيخ، والزئبق والرصاص... التي أكّدت فحوصات سابقة عن تواجدها في المياه، غير المواد الكيميائية عالية السمّية التي حملها الرماد المتطاير من حرق النفايات مع الغازات التي اختلطت كلّها في المياه... حتّى إنّ الأنهر في لبنان ملوّثة، وأكدّ ذلك مركز البحوث الزراعية سابقاً، الذي أخذ عيّنات من الأنهر في عدد من المناطق اللبنانية، والتي أظهرت وجود مواد سامّة ومسرطنة، ما يُعتبَر علمياً حال طوارئ».

مزيج من الأمراض

أمّا عن الأمراض التي تسبّبها هذه المواد، فأشارت إلى أنّه «نتعرّض لخليط من المواد السامة التي ينتج عنها مزيج من الأمراض الآنية لنصل الى الخطيرة والمزمنة، كالأمراض الجلدية، والتهاب العينين والأذنين، بالاضافة الى الأمراض المتناقلة مائياً والتي تُعرف بالـ«Waterborne Diseases» مثل التيفوئيد، التهاب الكبد الفيروسي، الإلتهاب الرئوي الحاد.

واذا كان الشخص يتعرّض الى المعادن الثقيلة وغيرها من الكميائيات، فقد تنتج عنها أمراض خطيرة ومزمنة كالأمراض السرطانية، وأمراض أخرى تؤثر على الجهاز العصبي والذاكرة والكبد...».

متى تظهر الأمراض؟

قد يتساءل البعض، إذا كانت هذه الأمراض تظهر مباشرةً بعد التعرّض للمياه الملوّثة أو أنها تحتاج إلى بعض الوقت لتظهر؟ تجيب د. أبو سليمان: «قد تظهر الأمراض الجرثومية وأمراض الكبد والالتهابات الطفيفة، مباشرةً أو بعد فترة وجيزة من التعرّض للمياه.

بينما تحتاج بعض الأمراض الأخرى الى وقت أكثر لكي تتكدّس المواد السامة في الجسم حتى يصل الى مستوى تبدأ فيه الأمراض بالظهور»، متسائلةً «كيف يمكن أن نقوم بالوقاية بوجود كلّ هذه المواد، ليس فقط في مياه بحرنا، بل في هوائنا وتربتنا؟»، مضيفة: «أنا شخصياً امتنعت عن النزول الى المياه السنة الماضية، لأنه برأي هذه هي الوقاية الصحيحة. وأنصح الجميع بعدم قصد البحر أو المسابح الخاصة قبل التأكّد فعليّاً مما تحتوي هذه المياه.

ويمكن أن يكون الحلّ من اثنين:

• الأول: القيام بمبادرات فردية من قبل المسؤولين عن المسابح الخاصة من خلال إجراء فحوصات متطوّرة ليس فقط للبكتيريا، بل للمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية في مياه المسابح، والتي لا تجرى عادةً إلّا تحت طلب خاص في مختبرات خاصة.

وأن يتكرّر هذا الفحص في كل مرّة تُعاد تعبئتها»، داعيةً الدولة إلى «القيام بمبادرة فعلية لتشكيل لجنة متخصّصة في عدّة مجالات، وأخذ عيّنات من مختلف الشواطئ اللبنانية والعمل على بناء هيكلية تنظيمية وحلّ أزمة النفايات وإدارتها بطريقة صحّية وآمنة».

سرطانات بالجملة

يسجّل لبنان، النسبة الأعلى من الإصابة بالسرطان مقارنةً بالدول العربية، وهذه النسب تتزايد بشكل خطير من عام الى آخر.

في هذا السياق، شرح لـ«الجمهورية» خريج مستشفيات الولايات المتحدة والبروفيسور السابق في جامعة فلوريدا، والرئيس الحالي لقسم علاج الأورام بالإشعاع في مركز كليمنصو الطبي البروفيسور نيقولا زوين عن الأمراض السرطانية الناتجة عن تلوّث مياه البحر، قائلاً: «يوجد في مياهنا مواد يمكن أن تسبّب السرطان، ومواد أخرى تحضّر للسرطان من خلال تفاعلها في جسم الإنسان مسبّبةً المرض».

ويعدّد بعض المواد المسرطنة على الشكل الآتي:

• الزرنيخ: مادة مسرطنة، تلوّث السمك، وتسبّب سرطان الرئة، الجلد والكبد للأشخاص الذين يبلعون المياه التي تتواجد فيها.
• الرصاص: يسبب سرطان الدم
• معدن النيكل (Nickel): يتواجد في البطاريات التي ترمى مع النفايات، ويسبب سرطان القلب والرئة.
• الكروميوم (Chromium): الموجود في الدهان (البويا)، يسبّب سرطاناً في الرئة.
• كادميوم (Cadmium): موجود في المعادن، ويسبّب سرطان البروستات.

هذه المواد موجودة في مياه بحر لبنان، ويؤدي كثرة التعرّض لها الى الامراض السرطانية التي ذكرت آنفاً، ولكن لا يجب أن ننسى أنّ هواءنا وتربتنا ومياهنا ملوّثة، وكل هذا التلوّث يتكدّس في جسمنا ليزيد استعدادنا للسرطانات المختلفة. وفي هذا الاطار أذكّر بضرورة تطبيق واقي الشمس لتجنّب سرطان الجلد».

صحّة الأطفال

وإذا كان كل هذا التلوث خطراً على الكبار، فما هي مضاعفاته على الأطفال؟ يقول طبيب الأطفال وحديثي الولادة، في مستشفى سرحال الدكتور أنطوان يزبك: «يحمل هذا التلوّث تأثيراتٍ آنيّة وأخرى لمدّة أطول. وتظهر التأثيرات البكتيرية على الولد عندما يبلع مياه البحر أو المسبح، فتدخل الى أمعائه وتسبّب له التقيّؤ والإسهال مع ارتفاع في الحرارة. وهذا المشهد يتكرّر في عياداتنا سنوياً مع بداية موسم الصيف.

أمّا التأثيرات الكيميائية المباشرة، فتسبّب حكّة في جلد الولد، فيتعرّض للطفح أو الالتهاب الجلدي. ويمكن أن تتجمّع هذه الترسّبات والمعادن الثقيلة على المدى البعيد في الجسم، بكميّة أكثر من المسموح أن تتواجد في جسمنا، فتصيب الجهاز العصبي للطفل، والجهاز التنفسي والكليتين وتسبّب الأمراض السرطانية والخطيرة.

وتجدر الاشارة الى أنّ هناك مسابح تُبرز ورقة تظهر فيها المواد التي تحتويها المياه، ويمكن للأهالي القيام بمبادرة فردية وأن يطلبوا فحص مياه المسابح الخاصة خصوصاً من ناحية تواجد المواد الكيمائية والمعادن».

ومع غياب طرق الوقاية من مياه البحر الملوّثة، قد يفيد الاهل بعض النصائح العامة التي يقدّمها د. يزبك للأطفال: «عدم أخذ أيّ طفل تحت عمر السنة الى البحر، وعدم اصطحاب الأطفال بين الساعة 10 صباحاً والـ4 ظهراً الى البحر للوقاية من أشعة الشمس.

بالإضافة إلى ضرورة تطبيق واقي الشمس على وجه الطفل قبل نصف ساعة من التعرض للشمس، وإعادة تطبيقه كل ساعتين. والحرص على إعطائه الكثير من السوائل، وإلباسه قميصاً بعد خروجه من المياه، ووضع له قبّعة ونظّارات».

حساسيات الجلد

من جهة أخرى، شهدت عيادات اختصاصيّي الجلد السنة الماضية عدداً كبيراً من المصابين جرّاء تلوّث المياه، بحسب رئيس قسم الجلد في مستشفى جبل لبنان الدكتور روي مطران الذي قال لـ«الجمهورية»: «تتعدّد الآثار الجانبية للنفايات ومياه البحر، التي ينتج عنها مواد عضوية وأخرى كيميائية مسبِّبةً حساسيات الجلد المختلفة.

لذلك، لاحظنا أنّ الناس الذين كانوا يسبحون في مياه البحر، دون أنّ يغسلوا أجسامهم مباشرةً بعد الخروج من البحر بالمياه العذبة، كانوا يتعرّضون الى مشكلات جلدية جدّية وعلاجها صعب.

كما سبّب التلوّث البحري الالتهابات الجلدية البكتيرية ما جعل المصابين يتناولون المضادات الحيوية. إضافةً الى التحسّسات الجلدية، التي تجعل الجلد أكثر حساسية لأشعة الشمس فيصاب الشخص بالحروق.