لو كان الرئيس المُنتخب غير إيمانويل ماكرون وفي ظروف مختلفة، كان يُمكن تقدير الموقف والاحتمالات ورسم الخطوط الثابتة للخريطة السياسية لإدارته وإمكانيات نجاحه أو فشله. لكن لأن الرئيس الجديد، جديد في كل شيء ولأنه يبدأ من الصفر وفي ساحة مليئة بالحطام من جهة والأحلام والطموحات من جهة أخرى، فإن الاستطلاع، فكيف بالقراءة، سيبقى ضبابياً حتى إشعار آخر..

الآن يقدّم الكثيرون قراءتهم وكأنهم يفككون لغة مشفرة. المهم أن الأغلبية بدأت تجد في ماكرون إيجابيات لم تكن تراها قبل أسبوع، الى درجة أن نقاطاً كانت تحسبها «عاهة سياسية» تحولت بين ليلة وضحاها الى نقطة قوة. من ذلك أن عمله في بنك «روتشيلد» ونجاحه في عقد صفقة الـ١١ مليار دولار مع شركة «نستلة» كان يصنّف في خانة السلبيات لأن هذا يُعد «صناعة» مصرفية ونتاج شركات متعددة الدول. أما اليوم فقد تذكّر الجميع أن الرئيس الناجح جداً جورج بومبيدو كان قد مرّ في المصرف نفسه وإقامته فيه كانت أطول... فلماذا هذا التفريق؟

طلّته الأولى في ساحة اللوفر، دفعت الى تشبيهه بنابليون بونابرت، حتى أن صحيفة «الكنار اونشنيه» رسمته وهو يتوّج نفسه بنفسه مثل نابليون رغم البعد بينهما، زمنياً وظرفياً. لكن هذا لم يحل دون السؤال: أي جمهورية ستكون «جمهوريته»؟

الدورة «الانتخابية الثالثة» ستكون بعد شهر من الآن، حيث سيُنتخب أعضاء البرلمان. سيُقدم ماكرون أربعمائة وخمسين مرشحاً من أصل ٥٧٧ هم أعضاء البرلمان. وحده فرنسوا بايرو أول حليف له قدّم أسماء لأربعين مرشحاً، الآخرون مثل ماكرون سيفصلون بأنفسهم أسماء المرشحين. المشكلة أن جميع هؤلاء ما عدا قلة منهم لا تربطهم علاقة حزبية توحدهم كما سبق وحصل طوال العهود السابقة.

صحيفة «اللوموند» طرحت إشكالية ما يحصل في كاريكاتور معبّر: في المطار طائرتان وقد تحطمتا كُتب عليهما: «الخطوط الجوية.. اليمين واليسار»، في حين أن الطائرة السليمة كُتب عليها بعد التلاعب اللفظي «عصر ماكرون» مستعملة ère بدلاً من air.

والواقع المرّ أن الحزب الاشتراكي قد تفكك، والحزب الجمهوري يتفكك بسرعة، والنقاش في «الجبهة الوطنية» مفتوح على الانشقاقات، خصوصاً أن ماريون ابنة أخت المرشحة مارين لوبن انسحبت الآن على أمل أن ترث الجبهة بمساعدة جدها جان ماري لوبن الغاضب من ابنته مارين.

هذه الحالة الجديدة والطارئة تطرح أسئلة جديدة وجدية مثل: هل انتهى زمن الأحزاب والصراع بين اليمين واليسار، وما هو البديل؟

يقول النائب والوزير السابق وأحد أقطاب اليمين الجمهوري فرنسوا باروان: «يجب عدم الخلط بين ضعف التشكيلات والأحزاب السياسية ومحو التخندق بين اليمين واليسار.. المستقبل السياسي لا يُختصر بالمواجهة بين ماكرون واليمين المتطرف».

أما السياسي العاقل آلان جوبيه فيقول «يجب العمل لأن تنجح فرنسا وتنفيذ الإصلاحات التي تحتاجها فرنسا»، في الوقت نفسه يرى بعض الخبراء أن «فرنسا التي لا يريد ماكرون الدخول في عملية بناء الجمهورية السادسة (حتى الآن) فيها، سيُمارس سلطته وكأنه في الجمهورية الرابعة».

المشكلة الكبرى هي في شخص إيمانويل ماكرون، الذي يوصف بأنه «يعمل مع فريق عمل تقني وليس سياسياً يتحمّل أسلوبه المتطلب والقاسي والذي يترك لنفسه دائماً الكلمة الفصل». وإذا كان هذا قد أوصله الى الرئاسة مع الكثير من الحظ خصوصاً عندما أصبح الفرنسيون أمام الاختيار بينه وبين لوبن أو بين الانفتاح على أوروبا والعالم والعولمة أو الانغلاق والتقوقع خلف جدار فصل، حيث كان من الطبيعي جداً أن يختاروا الانفتاح وماكرون، فإن هذا لا يكفي.

على الرئيس إيمانويل ماكرون أن لا يبقى «صاروخاً» وصل إلى الإليزيه واستقر بين الحطام.. عليه أن يعمل بسرعة للعبور بفرنسا نحو عصر جديد يُرسم في الشرق بدمائنا، وفي الغرب بأدوات الديموقراطية والأفكار.