كانا حبيبين، ربما كانا حبيبين! لا تملك إجابة شافية عما دار بينهما، أو مازال بينهما، لكنها باتت مقتنعة، حين تراجع وقائع لقاءاتهما المبعثرة على مدى سنوات طويلة، والقليلة المتفرقة الآن، أن نوعا من الكيمياء يسري بينهما.
علاماتهما في الكيمياء عالية، لكن يبدو أنهما سقطا في الحساب، حساب العمر. ظنا أنهما سيمكثان طويلا في العشرينيات، ثم أغرتهما الثلاثينيات بتثاقل خطوها، وفي أوائل الأربعينيات تبادلا أطراف حديث بلا معنى، سألته أين كان؟ أين سيذهب؟ أجابها "لن أشرح، تعرفين الحكاية كلها" ثم افترقا، وها هو العمر يسحبهما نحو حافة الخمسين. تود لو يمد يده لينقذها، لكنها لا تبوح برغبتها. يرغب لو أنها تمنحه نظرة قبل أن تبتلعه هاوية النصف الآخر من العمر، لكنه لا يتودد.
إلتقيا صدفة، أمام مدخل المستشفى، هو في طريقة لزيارة طبيب القلب، وهي خارجة من عيادة طب العظام، ابتسمت حين رأته يخفي وصفة الدواء في جيب قميصه، فقال لها "العواطف تشيخ أيضا، تنكمش مع توالي السنين، تتجعد، تترهل، وتصاب بأمراض التكلس والجفاف والتصلب والتخثر والانسداد"، فضحكت هذه المرة بصوت عالٍ، فقال لها "أحب هذا الجرس"، كلميني حين تستطيعين، لم تكلمه، لم يكلمها. إنقطعت الصدف، رغم أنهما لم ينقطعا عن زيارة طبيبيهما.
كانا رفيقين، لم يعودا كذلك. ما بقي من العمر لم يعد كافيا للمزيد من التفاعلات، العمر استهلك استجاباتهما وحبسهما...هو على أطلاله، لا يدري أيبكي أم يضحك، وهي في مشاغلها التي لا تنتهي. 
قال لها مرة إنها تسكن في قلبه، وقلبها مازال يعيدها. يسكن قريبا منها، لكنهما بعيدان، كما لو أن كلا منهما على الطرف الآخر من الكوكب. وحيدان كغصنين مقطوعين من شجرة، كجذعين حولتهما يد القدر إلى مقعد انتظار.
هو ينتظرها، عاش ينتظرها، وهي تنتظر اليوم الذي يمل فيه من الانتظار، أو يمل الانتظار منه، تحيا بهذا الأمل الذي يتراكم خيبات يوما أثر يوم. لم تحن الساعة بعد، ربما لن تحين، اعتادت على الاكتواء بلدغات عقاربها، ودورانها الذي لا يخلف في نفسها سوى الألم.
هو يحبها، لم يعترف يوما بحبه لها. لكن أنفاسه، حركات يديه، أصابعه التي تود لو تضع على طرف كل واحدة منها قبلة، عيناه اللتان تخفقان مثل قلبين أحمرين مطبوعين على رسائل العشاق، حين يراها، وشت به.
هي تحبه، أحبته مذ هربت منه، فوجدت أنها قد رجعت إليه. هي تهرب منه دائما، تتحاشى لقاءه، تخاف أن تتداعى حصونها، أمام نظرة تباغتها منه.
تبتعد حين يقترب، تقترب حين يبتعد...كخطين متوازيين لا يلتقيان...