القى البطريرك الماروني الكردينال مار بشاره بطرس الراعي، كلمة في مؤتمر الأزهر ومجلس حكماء المسلمين الذي عقد في القاهرة بعنوان "الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل"، قال فيها: "يسعدني أن أشارك في هذا المؤتمر بموضوع "الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل"، الذي ينظمه الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين. وأشكر من صميم القلب سماحة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، رئيس مجلس حكماء المسلمين، على الدعوة الكريمة للمشاركة وإلقاء كلمة في الموضوع الذي يمس عناصر أربعة من شأنها أن تعيد بناء عالمنا العربي في ضوء التحولات الكبيرة في المنطقة. فأود بمداخلتي هذه تحديد مفاهيم الحرية والمواطنة، والتجربة اللبنانية القائمة على هذه العناصر، وكيفية معالجة التراجع في مفهوم العروبة".

وتحدث الراعي عن "الحرية قيمة ثمينة في الإنسان"، فقال: "الحرية هي في أساس المواطنة. فالإنسان كائن حر بكينونته. حريته لا تقف عند حدود الخيار والتقرير، بل هي تعبير عن انفتاحه على المطلق، لكونه مخلوقا على صورة الله ومثاله. ولذا، هي بعد روحي في الإنسان يدعوه للاكتمال في وجوده التاريخي، وللترقي نحو الأفضل. هذه الحرية تمنح الإنسان كرامة، لا يحق لأحد انتزاعها منه أو المس بها أو التنكر لها. إنها تضمن له حقه في حرية الرأي قولا وكتابة، وحرية التعليم، وحرية الطباعة، وحرية تأليف الجمعيات، والحرية الدينية عقيدة وممارسة وتعليما وإقامة شعائر، وحقه في تولي الوظائف العامة. وهي حقوق تقرها شرعة حقوق الإنسان، كما يقرها دستورنا اللبناني (المواد 9 و10 و12 و13)".

اضاف: "في كل الحريات وفي طليعتها الحرية الدينية تتجلى خصوصية الشخص البشري، إذ فيها يوجه حياته الشخصية بكل ابعادها الدينية والاجتماعية والوطنية. المس بالحرية الدينية هو مس بكل الحقوق والحريات الأساسية، وبأسس العيش السليم معا. فالحرية الدينية طريق نحو السلام".

ثم تناول موضوع المواطنة ومقتضياتها، فقال: "إن المواطنة السليمة تفترض الحرية وحقوقها. فالمواطنة انطلقت في الأساس لحماية حقوق سكان المدن والبلدان كأفراد وجماعات، في وجه استغلال حريتهم وحقوقهم، وللاعتراف بالآخر كفرد وكمجموعة، ولإشراكه في حياة المجتمع، حيث تتفاعل مكوناته على أساس قيم محددة وأهداف واضحة تحقق العدالة الاجتماعية والتوزيعية. ثم أخذ هذا الاعتراف شكلا قانونيا بحيث أصبحت المواطنة إقرارا بالحقوق والواجبات التي توضح علاقة المواطن بالدولة من جهة، وعلاقة الدولة بالمواطن من جهة أخرى. فالحقوق تدور حول المشاركة في الحياة العامة وفي الحياة السياسية. والواجبات تتعلق بخدمة الوطن. فيكون هدف المواطنة صون الحريات المدنية وخلق انتماء وطني".

واكد ان "المواطنة تقتضي رابطة يشاد عليها العيش معا، ويقوم البناء الحقوقي للدولة. فمنهم من أسس الرابطة على الدين ومنهم على العرق ومنهم على عهود. أما العالم العربي فأقامها على العروبة أي تلك الحاضنة الحضارية التي أقرت بالتعددية كمنطلق للاعتراف لكل مواطن بالمساواة مع غيره والشراكة الفاعلة في نهضة المجتمع وتحقيق غاياته. وأعطت العروبة مكونات عالمنا العربي إمكانية المشاركة في صناعة التاريخ، بما تقدمه هذه المكونات من خير، انطلاقا من مخزونها الثقافي الذاتي ومما كونته مع غيرها من إرث حضاري مشترك. هكذا حصلت دول منطقتنا على شرعيتها من تلك العروبة التعددية، ولن تجد خارجا عنها سبيلا لمستقبل أفضل".

وعن التجربة اللبنانية، قال الراعي: "لقد أوجد لبنان بالميثاق الوطني عام 1943 شكلا تطبيقيا للمواطنة المنبثقة من العروبة، وهو العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، الذي جددت أسسه وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن اتفاق الطائف (1989) ونظمه الدستور المعدل على ضوئها بحيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات، ويتشاركون مناصفة في الحكم والإدارة، حتى نصت مقدمته على أن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" (ي)".

اضاف: "العيش المشترك هو لب التجربة اللبنانية التي "تحل الوطنية السياسية محل الوطنية الدينية"، كما أعلنها في خطابه البطريرك الماروني الياس الحويك، يوم حمل مشروع لبنان الكبير باسم جميع اللبنانيين إلى مؤتمر السلام في فرساي بفرنسا سنة 1919. إن صلب العيش المشترك هو إذا الإنتماء إلى مشروع حضاري التقى فيه الإسلام والمسيحية، وأتيا به برهانا على أن عيش الأخوة بين البشر وأبناء الحضارات والديانات المختلفة، ممكن تاريخيا، وأنه يحق للإنسان، بحكم انتمائه إلى وطن، الوجود والمشاركة السياسية بعيدا عن أي تصنيف أو إقصاء أو أي اعتبار آخر، وبذلك يتحقق التنوع والتكامل بين مكونات الوطن الواحد".

وأعلن :"ان الكنيسة المارونية تعتبر أن المواطنة الفعلية والفاعلة إنما تصان وتعاش في "الدولة المدنية". وقد طرحت هذا الخيار في وثيقتين: المجمع البطريركي الماروني الذي اختتم أعماله سنة 2005، وهو مجمع خاص بالكنيسة المارونية، وشرعة العمل السياسي التي وضعتها سنة 2009، وحظيت بتأييد الأطراف اللبنانية كافة. في الوثيقة المجمعية، حددت أن المقصود بالدولة المدنية لا الدولة اللاعسكرية، بل الدولة "القائمة على عمل المؤسسات الوطنية، غير المرتهنة للمتغيرات الإقليمية والدولية، وغير المقيدة بالتجاذب الطائفي؛ دولة لجميع مواطنيها من دون تفرقة أو تمييز، تتفاعل مع مستجدات العصر في إطار الحرية والديمقراطية التوافقية" (الكنيسة المارونية والسياسة الفقرة 34)". 


اضاف: "وفي شرعة العمل السياسي أكدت كنيستنا أنه: "بفضل الميثاق الوطني القائم على حرية الأفراد والجماعات والمساواة في ما بينهم وإرادة العيش معا بين المسيحيين والمسلمين، يتميز نظام لبنان بأنه متوسط بين النظام التيوقراطي الذي يجمع بين الدين والدولة والنظام العلماني الذي يفصل تماما بينهما" (ص29). فيكون أن الدولة المدنية هي المجال لمواطنة تحقق الاعتراف والمشاركة بتكريس التنوع في إطار تكامل تمليه رابطة المواطنة كما ورد في الشرعة أيضا: فالمواطنة تقتضي المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع، عبر مؤسسات دستورية قادرة على نشر عدالة سليمة ومنصفة. والتنوع يقتضي العمل بمبدأ المشاركة الفاعلة والمتوازنة من قبل جميع الطوائف والمذاهب والمكونات والأفراد في الحكم والإدارة، من أجل التكامل، من دون إقصاء دور أحد أو إسقاطه من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية (الشرعة ص 36). بنتيجة كل ذلك يسود النظام الديموقراطي والحوار الحقيقي مع كل إنسان وجماعة، أيا تكن التقاليد الدينية والثقافية والسياسية، من أجل الوصول إلى تفاهم أفضل، وإقامة عالم إنساني يستطيع فيه الجميع أن يعيشوا بكرامة وحرية وعدالة وسلام".

واكد "ان التجربة اللبنانية للعيش المشترك تسهم في إغناء الحضارة الإنسانية، في حقبة من التاريخ تشهد مخاضا صعبا يتمحور حول أسئلة وجودية: كيف يمكن أن نعيش معا مختلفين ومتساوين؟ وكيف نضع حدا لدوامة العنف التي تضع وجها لوجه هويات ثقافية وسياسية متنوعة، فتجعل من كل واحدة خطرا يتهدد الأخرى، وتدفع الواحدة إلى إلغاء الآخرى المختلفة باعتبارها مصدر خطر عليها. "فإن التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية اليوم، هو مشكلة العيش معا بين العائلات البشرية التي تختلف دينا وثقافة وحضارة. كيف يمكن أن نعيش معا في الاحترام والسلام مع التعددية التي يمتاز بها عالمنا؟ كيف يمكن أن نحول التعددية من ذريعة للتنافر والتناحر إلى دعوة للتواصل والتكامل ؟".

وقال الراعي : "نحن نعتبر أن التجربة اللبنانية، في صيغتها المتجددة والمنقاة من سلبياتها المعروفة "بالطائفيات السياسية"، التي تقدم الخاص على العام، تشكل نموذجا يمكن الإفادة منه في العالم العربي، كنمط حضاري للعيش معا والترقي في مجتمعات تتميز بالتنوع والتكامل؛ وتشكل أيضا مدخلا لإعادة تعريف العروبة بوصفها رابطة حضارية تقرب بين العرب، لا مشروعا سياسيا يباعد في ما بينهم، وتمكنهم من الإسهام في الحضارة العالمية. "إن العالم العربي يبحث حاليا عن ذاته، وعن صيغة لوجوده، وعن موقع له في عالم اليوم، يستطيع من خلاله أن يكون عنصرا إيجابيا في صنع الحضارة الإنسانية والمساهمة في تثبيت دعائم الإستقرار والسلام، إنطلاقا من أصالة هويته وفرادة تراثه. نحن نأمل أن يتبنى هذا المؤتمر التجربة اللبنانية كإحدى ثماره".

واشار الى التراجع في مبدأ العروبة والأمل باستعادته، وقال: "لا أحد منا إلا ويرى اليوم تراجعا خطيرا في مبدأ العروبة، إذ نشهد في بعض من دولنا العربية مظاهر إقصاء أو محو أو طمس لحق أحد مكوناتها بالوجود والمشاركة الفاعلة. فالتطرف السائد اليوم دفع بالدين والعروبة إلى اتخاذ شكل إتني أو جيوسياسي تنتفي معه التعددية والمشاركة والتعايش، وتتوطد الأحادية. وهذا هو الخطر الأكبر على العالم العربي. فنرى مجموعات تتنكر لعروبة غيرها، وترفض مواطنيتهم. فلا بد من تجديد مفهوم العروبة، بإدخالها في صلب التكوين الدستوري للدول العربية، من دون خوف من التنوع كأساس للتكامل".

واوضح ان "ثمة أمل في ذلك لأننا نسمع، في قلب هذه الأزمة، أصواتا ترتفع، ونرى جهودا تبذل للتأكيد على العروبة وعلى الحرية والمواطنة والتنوع والتكامل. وهذا ما تشهد له المبادارت والنصوص التي تصدر عن مرجعيات كبيرة في عالمنا العربي محاولة الوقوف في وجه العاصفة. وفي طليعة هذه المبادرات هذا المؤتمر، وما سيعرضه مندوبو مختلف البلدان المشاركة".

وقال: "لكي تكتمل هذه الجهود وتحقق نتائجها المرجوة، ينبغي أن تصبح عملا مشتركا على مستوى المرجعيات المدنية والدينية. إننا نرى دور المرجعيات الدينية وعملها المشترك على صعيدين: الأول، خطاب ديني يتمسك بالقيم والأسس الدينية الواضحة التي تتعلق بالاعتراف بالآخر، وبعلاقة الجماعات بعضها ببعض، وبحقها في الحرية وخصوصا الحرية الدينية، خطاب يعلي شأن الإنسان على كل اعتبارات أخرى؛ والثاني إعطاء هذا الخطاب شكل شرعة إسلامية - مسيحية تعلن مبادئ صريحة وواضحة في مسائل الحرية والمواطنة والتنوع والتكامل. هكذا يسهم الدين في مواجهة التعصب والتطرف والإرهاب، ويكون في الوقت عينه رافعة مجتمعية، لأن خطابا دينيا على مستوى المؤسسة الخاصة بكل دين، وشرعة مشتركة، إنما يرفعان الغطاء عن أي فرد أو جهة تتلحف بالدين، أو تتستر به، أو تستغله مادة مشتعلة بهدف الإرهاب أو التطرف أو التعصب، وفي الوقت عينه يسهلان قيام مواطنة حقة في إطار دولة ترعى الحقوق وتحقق المشاركة. هذا الأمر يحفز الدولة على حفظ السلم والأمن في مجتمعاتها، فلا هي تشعر بأنها متروكة لقدرها أمام مجموعات تتخفى وراء الدين وتحرجها، ولا تستطيع هي بدورها أن تستثمر الفوضى الحاصلة في الدين. هكذا تحفظ استقلالية كل من الدين والدولة، وفي الوقت عينه تنكشف مساحات العمل المشترك بينهما، فيظهر أن الدين لا يشكل عائقا، بل يكون عاملا مساعدا ومؤسسا لانطلاقة المجتمع".

وختم الراعي : "إنني إذ أدعو معكم إلى الله، عز وجل، أن يبارك هذا المؤتمر لبلوغ أهدافه، أشكر لكم إصغاءكم".