مكّن موقع الأردن الاستراتيجي عمان من أن تكون طرفا رئيسيا في محاور عديدة ضمن السياسات الإقليمية، ويصفها البعض برمانة ميزان المنطقة، الأمر الذي يفرض عليها نقطة توازن يصفها محللون بالصعبة بين أجندات القوى الإقليمية الكبرى وخططها، مثلما هو الحال في الوقت الراهن مع ملفات الأزمة السورية والحرب على الإرهاب والصراع مع إيران.
 

يتأمل المراقبون بعناية تطور الموقف الأردني المتعلق بالشأن السوري، ويرصدون التحوّلات الأردنية بصفتها استجابة لقراءة تستشرفها عمان وتستشعرها قبل أي عواصم أخرى. ولا شك أن المواقف التي تثار حول مقاربة الأردن الجديدة للصراع السوري الداخلي تلقى اهتماما من كافة الدول الإقليمية المعنية أو المنخرطة بالحرب السورية.

لم يكن الموقف الأردني راديكاليا في معاداة النظام في دمشق على منوال مواقف خليجية أو مواقف تركيا المجاهرة في العداء لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.

ولم يكن موقف عمان مدافعا عن نظام دمشق ولا داعما لصموده على منوال ما يصدر عن إيران وما حفّز تدخلا عسكريا واسعا من قبل موسكو، إلا أن السياسة الأردنية كانت جزءا من الورشة الإقليمية الدولية المناصرة للمعارضة السورية على الرغم من تأكيد الحكم في الأردن على ضرورة التوصل إلى حل سوري وفق أسس سياسية لا عسكرية.

انخرط الأردن ضمن مجموعة أصدقاء سوريا التي مازالت تنشط لدعم المعارضة السورية بالسبل الدبلوماسية في المحافل الدولية.

وفتحت عمان الميدان الأردني أمام إنشاء غرفة عمليات أميركية إقليمية كانت تشرف على عمليات المعارضة جنوب سوريا، كما تنظم دورات تدريب لقوات معارضة كانت تخضع وفق معايير أميركية غربية لمعايير التأكد من أنها لا تنتمي إلى الفكر الجهادي الذي كان يضخه تنظيما داعش والقاعدة داخل صفوف المعارضة في سوريا.

 

مقاربة واقعية

 

وفق أجواء التوتر بين دمشق وعمان، قال العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في مايو 2015، في لقاء متلفز، إن نظام الرئيس بشار الأسد كان عاملا أساسيا في قوة تنظيم داعش.

وأضاف أن “تنظيم الدولة الإسلامية بينما كان يتشكل ويتقوى، لم يتعرض له أحد، فالنظام كان يقصف الجميع إلا داعش، وهو الأمر الذي أثار الكثير من الاستغراب. لماذا كان يسمح لهم بتعزيز وجودهم؟ كان أحد التفسيرات بشكل واضح أنه بوجود إدانة دولية للنظام، فقد كان هناك سعي إلى إيجاد طرف أسوأ منه في منظوره، بحيث يميل الرأي العام إلى النظام، وقد نجح في ذلك”.

ورأى المراقبون حينها أن تصريحات العاهل الأردني لقناة “سي إن إن” الأميركية تعبر عن توجه جديد للأردن، خصوصا أن الملك عبدالله الثاني يتهم النظام السوري بأنه أسهم في وجود داعش، ما بدا وكأنه إيراد للنظام السوري على قائمة “المستهدفين” في المرحلة المقبلة، والتي يحدد الأردن “داعش” كأولوية أولى فيها.

ولم يكن الأردن يقارب الأزمة السورية من منظار أيديولوجي، بل من واقع ما تصدره تلك الأزمة من تداعيات مباشرة نحو الداخل الأردني. تحمّل البلد بحكم الجيرة تدفقا قياسيا للاجئين السوريين على نحو لا تحتمله القدرات الاقتصادية للمملكة، وشكل ضغوطا مقلقة في مجالات الأمن، ناهيك عما يمكن أن تضخه الأزمة من اختلالات داخل تيارات الرأي في الأردن بين معارض ومؤيد لنظام دمشق.

وبالمقابل، لم تتحمل دمشق ما اعتبرته موقفا ملتبسا للنظام الأردني وشنت حملات مخصبة بتهديدات واضحة عن رد قد يقوم بها النظام في سوريا ضد المملكة الهاشمية، ملمحة إلى إمكانات انتقال الإرهاب إلى الداخل الأردني.

وتولى السفير السوري السابق في الأردن بهجت سليمان شن هذه الحملات من داخل الأردن مستفيدا من مناصرة تيارات أردنية كانت تتوافد لزيارة سفارة دمشق في عمان. وكان واضحا أن سليمان كان يتقصّد تجاوز حدود اللياقة التي تفرضها وظيفته الدبلوماسية كما كان يتقصّد استفزاز الحكم الأردني والقوى الأردنية المناهضة لنظام دمشق والمؤيدة للمعارضة السورية.

وكان الاجتماع مطولا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أن يكون الزعيم العربي الأول الذي يلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

والأمر لا يتعلق فقط بمواهب الدبلوماسية الأردنية، بل أيضا بإدراك واشنطن وموسكو لأهمية الدور الوظيفي الذي لعبه الأردن في تاريخ المنطقة الحديث والذي لا يزال يستطيع أن يلعبه داخل ملفات العراق وسوريا وفلسطين ومكافحة الإرهاب.

واللافت أن مقابلة الـ”بي بي سي” التى تم ترتيبها مع قائد الأركان الأردني كشفت تحوّلا متعلقا بالموقف من المسألة السورية وثابتا متعلقا بالموقف من إيران، حتى أن حديثا للمسؤول العسكري الأردني عن أنشطة قوات الحشد الشعبي في العراق جاء خارج السياق العام للمقابلة، وهو دليل على أن عمان تقصّدت تكرار مخاوفها من السياسة الإيرانية في المنطقة.

كما أن تحذير القائد الأردني من سعي قوات الحشد الشعبي في تلعفر غربي الموصل إلى فتح ممر بري يصل إيران بلبنان، ينطوي على إعادة تشديد لتحذير كان قد أطلقه العاهل الأردني عام 2004 من ورشة إيرانية هدفها إقامة هلال شيعي في المنطقة.

ويشدد الأردن على جديته في تأمين حدوده الشمالية مع سوريا وفق خيارات سياسية وعسكرية، نافيا، على لسان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، وجود أي تواصل مع طهران في شأن ذلك أو في شأن طبيعة علاقاته مع دمشق.

وقد أضحى دور الأردن معتمدا، مقبولا ومرحبا به من قبل كافة الأطراف. ففي 4 فبراير، أي بعد أسبوعين من اجتماع العاهل الأردني مع بوتين وأثناء زيارته لواشنطن، اخترقت طائرات أردنية الحدود الجنوبية لسوريا وقامت بالإغارة وتدمير مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية، وفي ذلك إشارة إلى دور الأردن الجديد، وهو أمر فهمه النظام السوري فلم يعلق على الغارة الأردنية ولم يستنكرها ولم يعتبرها تعديا على السيادة، على منوال ما تتعامل به دمشق مع التدخل العسكري التركي شمال البلاد.

وفيما استمع العاهل الأردني مليا إلى أفكار الرئيس الأميركي حول إقامة مناطق آمنة، لم يستبعد المراقبون “درع فرات” أردني جنوب سوريا على منوال ذلك التركي شمالها، فإذا ما كان الرئيس التركي يروج لمناطق آمنة تسيطر عليها أنقرة، فإن عمان قد تكون مهتمة بإقامة مناطق آمنة على حدودها تكون تحت إدارتها.