إنّه من المغري أن ننظر إلى الكتب والتقاليد التاريخية للاتحاد السوفييتي؛ لشرح جرأة نشاط المخابرات الروسية اليوم، بدءاً من تدخلها في الانتخابات الأميركية، وصولاً إلى قتل معارضي الكرملين في الخارج.
 
 
لكن هذه الأنشطة ليست فقط نتاج طرق قديمة، أو جغرافيا سياسية جديدة؛ بل تنبع أيضاً من تحول في أنشطة الشرطة السياسية الروسية، التي تتمثل في جهاز الأمن الفيدرالي سيء السمعة، والذي أنشئ في الأصل لحماية حكم الكرملين بروسيا، إلا أنه سرعان ما تولى عمليات روسيا الخارجية. وبذلك، تمكنت مجموعة جديدة من رجال الشرطة السرية، الذين يجهلون تقاليد التجسس، من إحداث تغيير جذري في طبيعة المخابرات الروسية، خاصة أنهم تحت حماية بوتين theatlantic.
 
ويُتهم جهاز الأمن الفيدرالي الآن، ليس فقط بإدارة التسريبات ضد حملة هيلاري كلينتون؛ بل أيضاً بدعم الأحزاب المتطرفة في أوروبا، وإثارة الاستياء في أوساط الأقليات الناطقة بالروسية في منطقة البلقان، إضافة إلى اتهامات بقتل زعماء المعارضة الشيشانية في تركيا والنمسا، ونشر معلومات مضللة، واختطاف رجل أمن إستوني سنة 2014.
جمع معلومات حول ترامب بغية جعله "دمية"
 
وفقاً للملف سيء السمعة وغير المُثبت، الذي نشره موقع "بازفيد" في 10 كانون الثاني 2016، فإن جهاز الأمن الفيدرالي تمكن أيضاً من جمع معلومات "كومبرومات" حول ترامب؛ بغاية جعله "دمية" في أيدي فلاديمير بوتين. ومن ثم، يجب العودة إلى الحقبة السوفييتية؛ لفهم مثل هذه المجموعة الثرية من المغامرات الخارجية السرية، المؤكدة وغير المؤكدة.
 
في الحقيقة، فإنه من خلال السماح لجهاز الأمن الفيدرالي بالعمل على الاستخبارات الأجنبية والعمليات السرية، ربما أطلق بوتين العنان لـ"وحش"، خاصة أنّ جهاز الأمن يلعب دوراً مركزياً في التطورات الراهنة، ليس لأنه يمتلك قدرات تقنية تفوق قدرات الوكالات الروسية الأخرى؛ بل لأنه لا يعترف ولا يحترم قيود بقية أجهزة الأمن الروسية نفسها.
 
ببساطة، فإنّ جهاز الأمن الفيدرالي يفعل ما قد يفكر في فعله الجميع، إلا أنهم قد يمتنعون عن ذلك؛ خوفاً من القيام بما قد يكون خطيراً على المستوى السياسي، أو ما قد يأتي بنتائج عكسية.
وفي الواقع، فجهاز الأمن الفيدرالي هذا، هو تكرار أخير وطويل الأمد للاستخبارات السوفييتية (لجنة أمن الدولة)، والتي تجاهل الرئيس الروسي السابق "بوريس يلتسين" دعوات لحلها، وقام عوضاً عن ذلك بإعادة بنائها من الصفر، حيث اختار، سنة 1991م، أن يقسم "لجنة أمن الدولة"؛ فأصبحت إدارتها الأهم، والمسؤولة عن التجسس، تحمل اسم جهاز الاستخبارات الخارجية. وتم تجميع معظم الإدارات المكلفة الأمن الداخلي تحت مظلة وزارة الأمن، ثم تحت مظلة خدمة مكافحة التجسس الاتحادية، ثم في سنة 1995م، أصبحت كلها تحت سيطرة جهاز الأمن الفيدرالي.
 
تولي بوتين المسؤولية
 
منذ ذلك الحين، لم يتراجع جهاز الأمن أبداً، وخاصة بعد سنة 1998، عندما ترأسه، لفترة وجيزة، ضابط تابع للجنة أمن الدولة، والذي كان على وشك أن يشهد تغييراً غير متوقع في مسيرته. هذا الضابط هو "فلاديمير بوتين".
في السنوات التالية، أصبح جهاز الأمن أقوى حليف لبوتين، حيث يقوم بمطاردة وتشويه سمعة منافسيه، ورعاية العاملين معه، وتضييق الخناق على أي موجة احتجاج شعبي. وفي المقابل، عمل بوتين على حماية وتمكين ورفع مكانة الجهاز، وغض الطرف عن الفساد المتفشي في صفوفه، ما جعل الجهاز يتفوق على منافسيه، مثل دائرة مكافحة المخدرات الروسية (شبيهة بإدارة مكافحة المخدرات) التي تم إلغاؤها سنة 2016. إضافة إلى أنه عادة ما يتم منح ضباط جهاز الأمن مناصب مهمة، من حكام إقليميين، إلى رؤساء مجالس الأمن. وتقليدياً، لطالما سيطر بوتين على البيروقراطية الروسية مترامية الأطراف، من خلال خلق عدة وكالات متداخلة، وجعلها يعمل بعضها ضد بعض، وهذا ينطبق على وكالات الاستخبارات. فعلى سبيل المثال، قادت المخابرات الخارجية، وجهاز الأمن الفيدرالي، ومديرية المخابرات الرئيسية، عمليات متنافسة في أوكرانيا.
 
وعندما أُسْقِط الرئيس الأوكراني السابق "فيكتور يانوكوفيتش" بعد ثورة "الميدان الأوروبي" في سنة 2014، كان ذلك أمراً مفاجئاً بالنسبة لموسكو، وبدأت على أثر ذلك "لعبة" إلقاء المسؤولية. فعلى الرغم من أن جهاز الأمن الفيدرالي كان الأكثر ارتباطاً بـ"يانوكوفيتش"، وكان قد قال في مرات عديدة إن الرئيس الأوكراني سيبقى في السلطة، فإن جهاز الأمن لقي دعم بوتين. ومن ثم، تحملت المخابرات الخارجية مسؤولية فشل الاستخبارات.
ومن بين نتائج تنافس وكالات الاستخبارات، التدخل المتزايد لجهاز الأمن الفيدرالي في العمليات الخارجية. ففي سنة 2003، كانت معظم القدرات الإلكترونية للتنصت والتجسس، التي تملكها الوكالة الفيدرالية للاتصالات والمعلومات الحكومية (النظير الروسي لوكالة الأمن القومي) تتبع لجهاز الأمن الفيدرالي.
 
وفي سنة 2005، بدأ الجهاز العمل في الدول المجاورة. أما في سنة 2006، فقد مررت روسيا قانوناً يسمح باستخدام القوة العسكرية "لقمع النشاط الإرهابي الدولي خارج روسيا"، وذلك قبل قتل المنشق "ألكسندر ليتفينينكو" في لندن.
 
تراجعت مكانة منافسيه
 
ومع تعزيز مكانة جهاز الأمن الفيدرالي، تراجعت في المقابل مكانة منافسيه. وبحلول نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت مديرية المخابرات الرئيسية في خِزيٍ؛ بسبب أخطاء ارتُكبت في حرب روسيا وجورجيا سنة 2008. كما شعر بوتين بأنّ خدمة المخابرات الخارجية متحفظة وغير مندفعة؛ وذلك لاكتفائها بجمع المعلومات، كما أنها فشلت في تصوير واشنطن في درجة العدوانية التي يؤمن بها بوتين؛ إذ لطالما اعتبر بوتين أن الولايات المتحدة تقود حملة لعزل روسيا، وحرمانها من القوة العظمى التي تستحقها.
كما اعتبر بوتين أن "الثورات الملونة" هي مؤامرات لإسقاط الحكومات الصديقة لموسكو (جورجيا سنة 2003م، وأوكرانيا سنة 2004، وقرغيزستان سنة 2005). كما اعتبر بوتين تدخّل حلف الناتو في ليبيا سنة 2001، مؤشراً على أن الولايات المتحدة ما زالت ملتزمة بتغيير الأنظمة بطريقة عدوانية.
 
وطالما يعتبر بوتين أن الغرب يمثل تهديداً، فهو يشعر بالحاجة لعملائه السريين؛ ليجمعوا المعلومات، وليكونوا وسائل نشطة لبلوغ طموحاته الجيوسياسية. ويبدو أن هذا المنظور قد تبلور خلال الفترة التي قضاها في منصبه كرئيس للوزراء، في الفترة من 2008 إلى 2012.
 
وقد سارع جهاز الأمن لملء الفراغ الذي تركته الأجهزة الأخرى. وأصبح مسؤولاً عن إطلاع بوتين على السياسة الخارجية، متدخلاً بذلك في عمل المخابرات الخارجية ووزارة الخارجية. ونجح الجهاز أيضاً في الضغط بقوة؛ لأجل الحصول على الأموال والتفويض، لتعزيز العمليات السياسية في أوروبا أولاً، وفي مناطق أخرى، بدءاً من تقديم موارد إلى الأحزاب الشعبوية والجماعات الانفصالية، وصولاً إلى اختراق حواسيب "اللجنة الوطنية الديمقراطية"، وإلى حد ما، حواسيب "اللجنة الوطنية الجمهورية".
وعندما تم تسريب محادثة بين مساعدة وزير الخارجية الأميركي "فيكتوريا نولاند" والسفير الأميركي لدى أوكرانيا "جيفري بيات" في سنة 2014م، كان من شبه المؤكد، أن التسريب تم من قِبل جهاز الأمن الفيدرالي. وربما تمكن الجهاز أيضاً من اختراق المخابرات الخارجية، ومديرية المخابرات الرئيسية، فقد أخبرني مطلعون على شؤون الاستخبارات، بأنّ هناك تقارير لجهاز الأمن الفيدرالي تحتوي على معلومات قامت وكالات أخرى بجمعها.
 
العالم كما يريد بوتين
 
بإمكان جهاز الأمن الفيدرالي القيام بكل هذا؛ لأنه يملك ثقة بوتين، ولأنه أدرك أن الرئيس الروسي يريد أن يخبره جواسيسه بما يريد أن يسمعه. وكما قال لي ضابط سابق في خدمة الأمن الخارجية، فإن "الخطأ هو أن تُواصل الحديث عن العالم كما هو، ليس كما يودُّه هو أن يكون". وبذلك، تمكّن ضباط الشرطة السياسية لجهاز الأمن الفيدرالي من أن يحتلوا مكانة متميزة، وأن تُوكل إليهم مهمة التلاعب بالانتخابات، والتودد للناخبين، والضغط على السياسيين في الغرب.
وفي الحقيقة، فإن هؤلاء ليسوا مجرد جواسيس يعملون لدى إحدى الوكالات؛ ذلك أنّ خلفيتهم كشرطة سرية في دولة استبدادية، جعلتهم يميلون إلى مضايقة الأشخاص، وللابتزاز والفساد والقتل. كما أنهم يعملون وفقاً لقيود أقل شدة من تلك التي يتبعها الجواسيس التقليديون. وطالما يخدمون مصالح بوتين، فإنه بإمكانهم الإفلات من العقاب، إذا ما قتلوا شخصاً ما. فحتى وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي كان قادراً على تحدي الجواسيس، أصبح دوره الآن مقتصراً على تنظيف الفوضى التي يخلفونها.
 
وقد أدى كل هذا إلى منعطف جديد في العمليات الاستخبارية الروسية، بقيادة جهاز الأمن الفيدرالي، الذي كان مسؤولاً عن عملية اختطاف ضابط الأمن الإستوني إستون كوفر سنة 2014م. ووفقاً لمصادر في موسكو، فالجهاز يقف أيضاً وراء عمليات تسريب "اللجنة الوطنية الديمقراطية"، حتى وإن كانت مديرية المخابرات الرئيسية هي التي جمعت الرسائل الإلكترونية. وهم أنفسهم الذين يدعمون المتطرفين الانقساميين والقادة الشعوبيين في أوروبا، على الرغم من أنّ مديرية المخابرات الرئيسية وخدمة المخابرات الخارجية لديهما خبرة أكبر.
الجهاز يعكس شخصية بوتين
 
لكن، ما يميز جهاز الأمن الفيدرالي هو استعداده لاغتنام الفرص. وبذلك، فإن الجهاز يعكس شخصية بوتين نفسه، وهو الذي استغل كل موارده، حيث لا يمكن التنبؤ بما قد يفعله، كما أنه أكثر استعداداً للمواجهة من أي شخص آخر، وهذا على الأقل خلال مرحلة "ما قبل ترامب".
 
لكن، ماذا ستكون نتيجة هذا على المدى الطويل؟ عندما اختطف جهاز الأمن "كوفر" جذب الانتباه إلى حقيقة أراد الجهاز إخفاءها، وهي ارتباطه بالجريمة المنظمة، الأمر الذي أصبح في وقت لاحق محور المزيد من التحقيقات المكثفة، في كل من إستونيا وأوروبا. وقد أخبرني ضابط مكافحة تجسس إيطالي بأنه قد حذر لسنوات من هذه المشكلة، إلا أنه بعد شهر واحد من عملية الاختطاف، سُمح له بأن يفتح تحقيقاً جديداً، بشأن الفساد في صفوف مسؤولي الأمن الروسي.
وفي الحقيقة، تبدو قرصنة الجهاز للسياسات الغربية فعالة بشكل مثير للقلق، إلا أنها تولد رد فعل في الغرب ضد تدخل روسيا، ونشرها معلومات تضليلية، وأصبح هذا الأمر حديث الساعة على جانبي المحيط الأطلسي، خاصة أن الأجهزة الأمنية الألمانية والفرنسية، تحذر من أن روسيا ستحاول التلاعب بالانتخابات القادمة في كلا البلدين.
 
وبدرجة الخطورة نفسها، تتبع المخابرات الخارجية، ومديرية المخابرات الرئيسية، ووكالات أخرى، طريقة جهاز الأمن الفيدرالي في صياغة الإحاطات الإعلامية؛ تملقاً لتحيزات وافتراضات بوتين.
 
وكنتيجة لذلك، فإن الرجل الذي يضع الاستراتيجية الروسية أصبح محاطاً بأنصاف الحقائق، والتفسيرات المشكوك فيها، والتفاؤل المثير للسخرية، الأمر الذي يجعله عرضة لمغامرات أكثر خطورة، وتدخّل أعمق في المستنقع السوري، وغزو أوسع لأوكرانيا، وصراع مباشر مع منظمة حلف شمال الأطلسي أو الصين. وعلى المدى الطويل، قد تصبح خطورة جهاز الأمن الفيدرالي على بوتين بدرجة خطورته نفسها على الغرب.
 
(ذا أتلانتيك - هافنغتون بوست)