لم تعد أطروحة صدام الحضارات بمعنى حتمية الصدام الغربي مع بقية سكان المعمورة أطروحة  نظرية فحسب بل إن هذه  الأطروحة العنصرية كانت قد أخذت طريقها الفعلي للتطبيق على الأرض منذ سنوات طوال.

هذه الأطروحة العنصرية بامتياز تخير حضارات بني البشر أجمعين بين التأهب لفناء محتوم أو الرضا بالانصهار في البوتقة الغربية ممثلة في المقام الأول بطريقة حياة الناس في أمريكا وما تشتمل عليه هذه الدولة من قيم مادية واعتبارية تكفر بما يخالفها من قيم واعتبارات إنسانية مضادة.

هذه الأطروحة العنصرية لم تتبلور واقعياً مثلما تبلورت بقيمة حرية التعبير بنسختها الغربية. فهذه الفكرة الأيدلوجية  بما تحمله من بريق ولمعان ظاهري استطاعت في مدة وجيزة أن تكون رأس الحربة في مشروع تبني ونشر مقولة صدام الحضارات لصاحبها الأمريكي صاموئيل هانتنغتون وجعلها محور اهتمام وسائل الإعلام العالمي وذلك عبر حروب عسكرية كما حدث في أفغانستان والعراق أو من خلال غزوات فكرية امتطت في الآونة الأخيرة صهوات مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة وساعدت كثيراً في عمليات الإطاحة بأنظمة سياسية و(اجتماعية) عتيدة لا سيما في منطقتنا العربية التي شهدت اندلاع ثورات غامضة ليس معروفاً على وجه اليقين إلى أين ستنتهي ومتى سوف تتوقف، وربما تكون الكلمة الفصل في إيضاح جوهر تلك الثورات رهينة بالحرب العالمية الثالثة التي يرى السياسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر أن من لم يسمع قرع طبولها حتى الآن لا بد أن يكون مصاباً بداء الصمم.

الإساءات الجديدة لمقام نبي الإسلام صلى عليه وسلم تندرج كما يبدو في إطار أطروحة صدام الحضارات. الإساءة الأولى (فيلم براءة المسلمين) كانت قد ولدت فوق الأرض الأمريكية وقيض لها موقع (يوتيوب) للتواصل الاجتماعي الانتشار على كامل الرقعة الجغرافية العالمية في غضون لحظات. تلتها إساءة ثانية تمثلت بنشر عشرين رسماً مهيناً لشخصية نبى الإسلام (صلى الله عليه وسلم) على صدر صفحات مجلة فرنسية وقد تعقبها إساءة ثالثة ورابعة.. الخ.

فالإساءة للإسلام وأهله كانت قد عبرت تخوم الحالة إلى الظاهرة بالتزامن مع تحول نظرية صدام الحضارات إلى نهج عملي.

صحيح أن هناك شريحة كبرى من عقلاء المسيحية واليهودية رفضت رفضاً قاطعاً الإساءة إلى نبى الإسلام( صلى الله عليه وسلم) بأي شكل من الأشكال، وقد صدر من بعض الكنائس مثلاً ما يستجيب لرغبة أولئك العقلاء لا سيما في موضوع الفيلم المسيء. بيد أن هذه المسألة تظل نصف الحقيقة إذ إن النصف الآخر من الحقيقة يقول إن القسم الأكبر من الكنائس والأديرة المسيحية لاسيما الغربية منها ما تزال تقف موقفاً سلبياً متذرعة بحجة حرية التعبير، وإذاً كان القسم الأكبر من الهيئات الدينية المسيحية ينتهج نهجاً سلبياً في التعاطي مع هذا الشأن فإن جميع المعابد اليهودية في العالم باستثناء عدد بسيط من رجال دين يهود تؤكد في كل لحظة من لحظات تذرعها بالصمت تجاه ظاهرة إهانة الدين الإسلامي اصطفافها مع أطروحة الحرب والصدام.

إلى جانب ذلك ثمة تأييد واضح صدر ويصدر من كبريات وسائل الإعلام الغربية وشركات التواصل الإجتماعي مع برح يصب الزيت بلا هوادة على نار الفتنة العالمية ابتداء من رفض شركة غوغل رفع مقاطع الفيلم المسيء من موقع يوتيوب العائد لها بدعوى حرية التعبير. وليس انتهاء بصحيفة (الغارديان) البريطانية التي كتبت بالقلم العريض مؤخراً بأن احتجاجات المسلمين في الشرق لن تزيد الغرب إلا تمسكاً بعقيدة حرية التعبير.

بعض المسلمين من جانبهم وجدوا في الإساءات الجديدة قضية طبيعة لا تستدعي القيام بردة فعل وإنها نتيجة لحرية التعبير! ترى ألا يكون مناسباً هنا تذكر قول القرآن الكريم:( وَلَن تَرضَى عَنكَ اليهود ولا النصاري حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) البقرة:120".

إن هذا المنطق لا يعني الدعوة إلى الاحتراب الديني بين المسلمين من جهة واليهود و المسيحيين من جهة أخرى لأنه بذلك سيكون تسويقاً فظاً لأطروحة الصدام التي سبق التعريض بها والتحذير من حجم الخراب الذي تنشد تحقيقه على حساب الاجتماع الإنساني، لكنها الدعوة إلى إحلال أطروحة التعايش السلمي بين الحضارات محل أطروحة الحرب والصدام وترجيح قيمة الحياة والسلام في مواطن الاختيار بينها وبين أي قيمة أخرى لا سيما قيمة حرية التعبير الغربية التي يُطلق لها العنان فقط عندما يتعلق الأمر بإهانة المسلمين.