أن تسعى قوى سياسية وحزبية ودينية في الجنوب، وفي مقدمتها #حزب_الله، لإقفال محال بيع الخمور في كفررمان عبر الضغط واستنفار بعض رجال الدين، فتلك مسألة لا تقف عند هذا الحد، بل تتجاوزه الى فرض قواعد شرعية وتقييد الناس بنمط حياة وفقاً لمرجعية دينية تتولى شؤونهم.

ليست قضية كفررمان منفصلة عما يحصل في قرى جنوبية كثيرة في ما يتعلق ببيع الخمور فحسب، إنما في كل معاني الحياة المجتمعية للناس من زواياها المختلفة، وهي تتصل بموضوع الحريات العامة والفردية والقوانين ودور مؤسسات الدولة وأجهزتها. فما الذي استدعى رفع عريضة وقع عليها 2500 شخص اعتراضاً على بيع الخمور في كفررمان مطالبين بإقفال محالها؟ ومن الذي قرر وأفتى في هذا التوقيت؟ خصوصاً بإدخال العنصر الديني في مسألة مدنية قد تؤدي لعبته الخطرة الى تكفير البعض أو كثيرين من مذهب معين بتهمة احتساء الخمر أو اتهامهم بالخروج عن الدين.


يكفي أن يقرر "حزب الله" من خلال أعضائه في بلدية كفررمان بموافقة من أعضاء "حركة أمل"، إقفال محال الخمور، حتى يصبح الأمر بمثابة فتوى شرعية، فترفع العرائض وتستنفر العصبيات وتستثار الغرائز ضد بيع الخمور في بلدة غالبية سكانها من الطائفة الشيعية، مع أنه كان في مقدوره أن يعلن الأمر من دون مواربة، طالما أن بعض رجال الدين المحسوبين عليه تولوا إعلان موقف شرعي من الموضوع، وطالما أنه تمكن في قرى أخرى من منع بيع الخمور في أي متجر يمارس هذا النوع من التجارة، لا بل إن بعض القرى وصلت فيها الأمور الى حد المطالبة بمنع الاختلاط في محال الإنترنت كما حصل في جبشيت، وحتى منع الاختلاط في المدارس، فيما حاولت بلدية الخيام في الصيف الماضي منع مشاركة الفتيات في ماراتون حرمون. لكن مسألة كفررمان تختلف بوجود بعض التنوع الحزبي اليساري والمدني، إضافة الى معارضة علنية لهيمنة أي من الأطراف على البلدة.

ولعل الرافضين لإقفال محال بيع الخمور في كفررمان، لا يريدون خوض مواجهة تحت هذا العنوان، لأن المسألة تتعدى الخمور الى تقييد الحريات العامة، وفق ما يقول أعضاء في المجلس البلدي يعارضون القرار الذي يمكن أن يأخذ طريقه الى التنفيذ اذا حسم محافظ النبطية محمود المولى موقفه في هذا الاتجاه. لكن المشكلة الأخطر تبقى في التعبئة السياسية والدينية التي تعتبر أن بيع الخمور يتعارض مع البيئة المحيطة. وهي مخالفة للعادات والتقاليد والقيم، وهي ممارسات حزبية شهد الجنوب والنبطية مثيلاً لها قبل سنوات، عندما أقفلت كل محال بيع الخمور في مدينة النبطية، إما بالضغط أو بالتهديد أو بدفع مبالغ مالية لأصحابها، علماً أنه جرى في عام 2011 تنظيم تجمعات أمام المحال في #النبطية بإيعاز من قوى الأمر الواقع أو القوى المهيمنة طلباً لإقفالها "لأنها تفسد التلامذة والجيل الجديد"، فيما اليوم لا يوجد أي محل لبيع الخمور في المدينة.

على أن قضية محال الخمور في كفررمان كانت ظهرت الى العلن بالتزامن مع الضغوط التي تعرض لها أصحاب المحال في النبطية، حيث أحرق أحد المحال عام 2012 في كفررمان وكاد أن يحترق معه محل آخر يبيع المواد الغذائية والكحول، لكن كل تلك الضغوط فشلت في إقفال المحال، ولم تتمكن القوى المهيمنة من قولبة البلدة وفرض نمط حياة على طريقتها، إنما بدا واضحاً أن هناك إصراراً من "حزب الله" المطالب بإعلان موقف من الموضوع، باعتبار أن حجم التحشيد والتجييش الذي تخضع له المنطقة استولد بيئة دينية مناهضة معادية لكل من يخرج عن قواعدها، وهي بيئة محسوبة تستطيع من خلال فائض القوة في ظل استحضار الفتوى الدينية أن تنزع إلى البطش والاقتصاص والمحاسبة، بحق من يخالف نسق حياتها، وتالياً لا يقف الأمر عند الخمور حيث يستطيع البعض الحصول عليه من أماكن فيها اختلاط طائفي، لكنها قضية تتعلق بالإطباق على القرى ومنع التعدد وضرب التنوع الذي يقضي على كل حياة مدنية.

ليست هذه الممارسات جديدة، لكنها تأخذ انطلاقاً من كفررمان وقبلها جبشيت والخيام، الى ممارسات أخرى غير معلنة، أشكالاً جديدة، لتعميم صورة نمطية لمجتمع على أنه كتلة دينية وسياسية واحدة، لا مكان فيه للتنوع الفكري والاجتماعي. ونحن نعرف، على سبيل المثال، أن مدينة كبرى مثل صيدا، لا يوجد فيها أي محل لبيع الخمور، حيث تعرضت محال كثيرة منذ الثمانينات للإقفال وحتى لتفجيرات، وكذلك في مدينة طرابلس وبعض القرى في البقاع. لكن ما يجري في قرى الجنوب من فرز ومحاولات الحكم والسيطرة بعنوان شرعي يشكل خطراً على التنوع. ولا بد من الإشارة في هذا السياق الى أن التوجه الذي يسير به "حزب الله" ينطلق من تخفيف الضغط على القرى المختلطة طائفياً، أي من المسيحيين والمسلمين، فيما تُضبط القرى الشيعية بنمط حياة محدد بما يتجاوز مسألة بيع الخمور، الى الحفلات والمهرجانات الموسيقية ومختلف أشكال الحياة المدنية، وهذا واقع نشهده في بعض قرى الجنوب والنبطية، علماً أن مدينة كصور ليست الكلمة الفصل فيها لـ"حزب الله"، بالإضافة الى تنوعها المذهبي قد خرجت من دائرة القبضة الحديد التي تمارس على الناس بالتعبئة واستنفار العصبيات المذهبية.

قد تقفل محال الخمور في كفررمان بالضغوط وغيرها، وربما لن يتمكن أصحاب العريضة من اقفالها، لكن الأخطر يبقى في استحضار العامل الديني الذي يستنفر عصبيات المذهب ويطلق، تحت عنوان منع الخمور، اتهامات الارتداد ويكفّر بعض الناس بفتاوى تطال الحياة المدنية وتقيدها. وهذا الأمر يستدعي المواجهة وحضور الدولة وعودة القانون.