في منتصف ليلة الحادي والثلاثين من ديسمبر عام 1991، انتهى وجود الاتحاد السوفييتي، الذي نشأ سنة 1922 على أنقاض الإمبراطورية الروسية، في أعقاب ثورة أكتوبر الاشتراكية سنة 1917. سبق ذلك عامان من التفكك الذي أخذ وتيرة متسارعة وجدت ذروتها في استقالة ميخائيل غورباتشوف من رئاسة الاتحاد السوفييتي.

ومع مطلع العام الجديد، 1992، كان قد تم إنزال العلم السوفييتي الأحمر ذي المطرقة والمنجل من على الكرملين، لتنتهي دولة لينين وستالين، القوة الشيوعية العظمى ذات الأهداف الثورية، ويدخل العالم فعليا مرحلة القطب الواحد، بقيادة الولايات المتحدة.

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ساد المجتمع الروسي ما يُسمى بأطلسة روسيا وانتشرت القيم الغربية، الأميركية. وشهدت البلاد أزمات اقتصادية، أخطرها “شدة التسعينات” حسبما يسميها الروس والتي سادت فيها سياسة رأسمالية قاسية وفقر مدقع وجريمة طاغية. ثم عاد الاستقرار، منذ عام 2000، تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين الذي وصف انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”.

أعطى هذا التصريح إلى جانب سياساته الخارجية التي تطورت كثيرا في السنوات الأخيرة وتدخله العسكري في سوريا، إيحاء بأن الرئيس الروسي يطمح إلى استعادة الأمجاد السوفييتية السابقة، خصوصا وأنه بات واضحا اليوم أن سياسة روسيا، وريث الاتحاد السوفييتي، قد أحدثت فعلا خللا في التوازن العالمي القائم على الأحادية القطبية، فبوتين لا يسعى إلى عودة الاتحاد السوفييتي بشكله التقليدي، الذي لا يمكن أن يعود بل يتطلع إلى الاتحاد الأوراسي “العظيم”.

أوراسيا.. رقعة الشطرنج الكبرى
لندن – يذكر زبيغنيو بريجنسكي المستشار للأمن القومي الأميركي أيام الرئيس جيمي كارتر (1977 - 1981) في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى- السيطرة الأميركية وما يترتب عليها جيواستراتيجيا”، أن أوراسيا تشكل مكمن التحدي السياسي والاقتصادي للسيادة الأميركية على العالم، وأن قوة أوراسيا تفوق بشكل كاسح قوة أميركا.

ويقصد بريجنسكي برقعة الشطرنج منطقة أورسيا (أوروبا- آسيا)، التي يعتبرها منجما، وعلى أميركا أن تحافظ على قدرتها على المناورة السياسية والمعالجة الدبلوماسية، فيها ومنع ظهور أي ائتلاف معاد يمكن أن يشكل تحديا لها.

تمتد أوراسيا من حدود أوروبا الغربية على المحيط الأطلسي حتى ضفاف الصين وروسيا على المحيط الهادئ في الشرق. وهي أكبر قارات العالم، وفيها معظم ثرواته وفيها ست دول ضخمة من الناحية الاقتصادية و العسكرية، والدولتان الأكثر سكانا هما الصين والهند، والدولة الأكبر مساحة وهي روسيا.

وبالنسبة إلى الروس تتعدى أهمية المنطقة بعدها الجغرافي، حيث تتخذ بعدا أيديولوجيا، فقد ظهر فكر يطلق عليه الفكر الأوراسي، وهي أحد اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في روسيا وفي جمهوريات آسيا الوسطى، وتبناه المعارضون للسياسات الأميركية.

وتشير الباحثة جنان علي، في بحث حمل عنوان “الأوراسية الروسية والأوراسية الأميركية، استراتيجية جديدة للهيمنة على العالم”، إلى أن بوتين أعلن في عام 2000 “روسيا دولة أوراسية”، وفي ذلك دلالة كبيرة متعددة المعاني والخطط، حيث اختصر بوتين بهذه العبارة القصيرة البرنامج السياسي والاقتصادي والاستراتيجي بعيد المدى.

وتضيف أن المشروع الأوراسي اتخذ زخما جديدا مع وصول بوتين إلى الرئاسة. ويرى بوتين أن في هذا الاتحاد تكاملا لصيقاً على أساس قيمي وسياسي واقتصادي، ويقترح وحدة عابرة وقوية للقوميات من شأنها أن تصبح أحد أقطاب العالم المعاصر. وهنا بيت القصيد؛ أن يصبح قطبا مؤثرا في العالم المعاصر، والاتحاد الأوراسي ليس أي قطب، إنه قطب كاسح للهيمنة الأميركية في العالم.


قوة عظمى عالمية

يقول ديمترى ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، “بعد خمسة وعشرين عاما، حيث تسعى إلى إعادة بناء نفسها كقوة عظمى عالمية، فإن روسيا تدرك أن تأسيس إمبراطورية تحت اسم مختلف ليس في تفكيرها”.

ولا يؤيد ترينين، الذي عمل في القوات المسلحة السوفييتية والروسية من عام 1972 إلى عام 1993، فكرة أن نظام عالمي ثنائي القطبية بصدد التشكل، وإن كان الوضع الراهن قد يقود إلى نوع مختلف من نظام سياسي غير مهيمن عليه من قبل قوة وحيدة. سيكون نظاما أكثر تعقيدا مع بقاء الولايات المتحدة القوة الأعظم، ولكن ليست القوة التي لا يمكن تحديها.

ويؤكد الباحث الروسي، في كتابه الصادر حديثا بعنوان “هل يجب أن نخاف من روسيا”، أن الإمبراطورية الروسية ليست بصدد العودة، ولكنها أيضا لم تختف إلى الحد الذي يمكن تجاهلها في صراع القوى العالمية. هناك تحركات يمكن أن يقوم بها بوتين لضمان مكانه على طاولة المفاوضات وعلى الجميع أن يراقب تلك التحركات عن كثب، مشيرا في سياق الحديث عن الدور الروسي في سوريا إلى أن الهدف النهائي بالنسبة لموسكو هو “الحصول على اعتراف من الولايات المتحدة كقوة ندية. هذا كل ما هنالك”، فمستقبل روسيا مرهون بأدائها الاقتصادي وبتقديمها للسياسة الخارجية كمورد للتطور الداخلي.

كان القرار الأخير بشأن سوريا أبرز التحركات التي أشّرت إلى أن الولايات المتحدة لم تعد وحدها صانعة الحرب والسلام في دول العالم؛ حيث جاء “إعلان موسكو” ليكون بمثابة التأكيد على أن روسيا صاحبة قرار في ما يجري بالمناطق الاستراتيجية من العالم.

ونشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية تقريرا عن الأزمة السورية، وقالت إن البلاد تشهد سلاما يصنعه “النسور” الروس والأتراك، ممثلين بكل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وذكرت الصحيفة أن الإعلان عن الهدنة في سوريا يمثل علامة على تضاؤل نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وعلامة أخرى على بدء الوفاق بين الرئيسين بوتين وأردوغان اللذين قررا اقتسام الغنائم في سوريا بدلا من الاقتتال عليها.


سياسة مختلفة

في خطوة أخرى، لا تقل إثارة للجدل، اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأول مرة، أن يتخلى عن مبدأ العين بالعين. ففيما كان الدبلوماسيون الأميركيون في روسيا يستعدّون لقرار من الكرملين يقضي بترحيلهم ردّا على قرار أميركي مماثل، اختارت روسيا أن تمتنع عن الرد ولو بالحد الأدنى المتوقع منها دبلوماسيا، أي المعاملة بالمثل. وعلقت مجلة فورين بوليسي الأميركية على الرد الروسي قائلة “برفضه عدم طرد الدبلوماسيين الأميركيين ردا على عقوبات أوباما، ضحك بوتين على البيت الأبيض وخدعهم بمكره”. ويقول فيودور لوكيانوف الخبير المقرب من نخبة الخارجية الروسية “المنطق المعتمد هو أنه لا يمكنك فعل شيء لروسيا من دون أن ترى الشيء ذاته يحدث لك”.

لكن، كشف في بيان نشره الكرملين عن سياسة جديدة لروسيا التي قالت إنها “سوف تمتنع روسيا عن اتباع سياسة “المطابخ” غير المسؤولة هذه، ولكنها تنوي اتخاذ خطوات لرأب صدع العلاقات الروسية – الأميركية بناء على سياسات إدارة ترامب”.

يكشف هذا القرار عن تحول كبير في دبلوماسية الرئيس الروسي؛ فيما يقول فيودور لوكيانوف “إنها حركة ذكية جدا لأنها سوف تقلل من حجم أوباما أكثر فأكثر”. وحركة بوتين المتسامحة هذه فيها تبديد لأي شكوك حول مسار السياسة الروسية في عهد إدارة ترامب.

ويقول فلاديمير فرولوف الخبير الأمني والمستشار السابق في الحكومة إن “بوتين وترامب سيفتحان صفحة جديدة لعلاقاتهما في قمة هلسنكي خلال شهر فبراير بتقبيل شوارب بعضهما. ثم ستسير الأمور على ما يرام بينهما عاما من الزمن إلى أن يقوم أحدهما باحتلال منطقة ما من العالم، وعندها ستبدأ الرهانات”، ولن تكون منطقة الشرق الأوسط وحدها مركز الصراع، بل أوراسيا، التي وصفها ديمتري ترينين بأنها “العالم الجديد بالنسبة إلى الروس".


العرب