نشرت صحيفة "إندبندت" البريطانيّة تقريرًا مطولاً للكاتب الشهير روبرت فيسك، الذي اختصر أبرز الأحداث الذي حصلت في العالم عمومًا، وفي الشرق الأوسط خصوصًا خلال العام 2016، إذ رأى فيه أنّ الأخبار باتت تفقد مصداقيتها مع اقتحام الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي لعصرنا هذا، وقال: "لا نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، لا في الشرق الأوسط ولا في الغرب ولا في روسيا، بل نقبع في عالم من الكذب. وبالأصل عشنا في عالم مليء بالأكاذيب".


وأبرز عددًا من الأمثلة على ما يقول، مشيرًا الى أنّ ما هو معاكس للحقيقة ويتمّ ترويجه ويصدّقه الجمهور، ليس جديد العهد. وأوضح من خلال مثل أنّ نيغيل فاراج، زعيم حزب استقلال بريطانيا، ليس نازيًا كما انتشر عنه، كذلك فالرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، فهو ليس الزعيم النازي أدولف هتلر، ولا جاء في زمن "النازيين الجدد" كما يبثّ على وسائل التواصل الإجتماعي. والمرعب، بحسب فيسك هو أنّنا بتنا "قادرين على تصديق الكذبة والعيش فيها كأنّها حقيقة".

إلى ذلك، أشار فيسك إلى الإنتخابات التي تجري بشكلٍ دوري في الشرق الأوسط الذي بات محطّمًا، إذ قال إنّ عددًا من الديكتاتوريين مرّوا به، وكانوا جميعهم -ما عدا الليبي معمّر القذافي- يطلبون إجراء إنتخابات دورية لكي يقولوا انّ هذه طريقهم للعودة الى السلطة. وعمّا حصل في الإنتخابات الأميركية الأخيرة، قال: "الآن أعتقد أنّ الإنتخابات المنتظمة مبنية على الأكاذيب، لذلك يمكن أن يتفق ترامب مع بعض الحكام العرب".

وفنّد الأكاذيب التي يصدّقها متلقو الأخبار في العالم أكثر، مشكّكًا بما نُشر عن أنّ ترامب سينقل مقرّ السفارة الأميركية الى القدس، قائلاً: "في نظرة الى إسرائيل، السفير الأميركي القادم – الذي أشبه بأن يكون السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة- ينتظر اللحظة التي ينقل فيها السفارة الأميركية الى القدس"، لكنّه تساءل: "هل سيدعم ترامب هكذا خطوة قد تغضب العرب؟".

ورأى فيسك أنّ "عالم ما بعد الحقيقة" مرتبط إلى حدٍّ كبير في مواقع التواصل الإجتماعي"، متسائلاً عمّا حصل على هذه المدوّنات إبّان نقلِ ما حصل داخل أحياء حلب الشرقية، ما اعتبره فيسك "غير إعتيادي وغريبًا، لا بل كان خطيرًا"، موضحًا أنّه لم يستطع أي صحافي غربي أن يغطّي المعارك والأحداث منذ نشوبها كما ينبغي. ولم يستطع أي منهم أن يشاهد الصورة بأم العين لينقلها، وتمّ الإعتماد على هذه المنصّات الإجتماعية، ما أدّى الى تضرّر مصداقية الصحافيين -كما السياسيين- الذين لم يستطعوا نقل زواية موحّدة للأحداث التي تدور هناك.

وقال فيسك: "مع تسليم الصحافة الى وسائل التواصل الإجتماعي التي تنقل الحسابات عليها ما يجري في سوريا، نتوقّع إعادة سيناريو حلب في إدلب. لكنّ هذه المشكلة في المنطقة أكبر من قصة أخبار سوريا، بل تنسحب لتشمل تغيير الحقائق في الشرق الأوسط ككلّ". وضرب مثلاً على ذلك: "قيل إنّ هناك 250 ألف شخصًا محاصرين في شرق حلب، وبعد انتهاء المعارك، نقلت التقارير أنّ 31 ألفًا اختاروا الذهاب الى إدلب، ويقدّر حوالى 90 ألفًا بأنّهم ذهبوا الى غرب حلب. إذًا، من الممكن أن يكون عدد المحاصرين على الأكثر 160 ألف وليس 250 ألفًا كما أشارت الإحصائيات، لكن لا أحد يتكلّم عمّا أشيع من قبل وعن الحقيقة الآن. إذًا نخن غارقون في الأكاذيب".

وعن نشر بعض الأخبار الكاذبة وتضليل أخرى قال: "كذلك لا أحد يخبرنا عن المدنيين في تدمر، المدينة الأثرية التي عاد اليها تنظيم داعش". وسأل: "ماذا عن الموصل؟ ألا يجب تحرير حوالى مليون مدني محاصرين من الجهاديين. ألا يجب الإهتمام بهم في الصحافة؟".

وسأل: "ماذا نقول عن أكاذيب ترامب والمملكة المتحدة، عندما يقوم الصحافيون بتشويه الحقائق عن الشرق الأوسط أو عدم طرحها بالأصل؟". وقال: "حتى في الإعلام الغربي، الصحف والقنوات، تسمّي الجدار الإسرائيلي "سياجًا أمنيًا"، ولا يحكى عن المستوطنات على أنّها غير شرعية".

كما تابع فيسك: "الآن يقول الأميركيون إنّ القوات العراقية، تعيد جمع صفوفها أو "تموضعها" حول أكبر الموصل"، مشبّهًا ذلك بما فعلته القوات البريطانية خلال انسحابها خلال معركة دانكيرك، إحدى المعارك البارزة خلال الحرب العالمية الثانية، إذا طُلب منها التموضع على أنّها ستتقدّم لكنّ ما حصل هو العكس.

ولفت فيسك إلى فينتان أوتول، أحد الفلاسفة في عالم الصحافة، والذي يتابعه هو قال: "إنّ الأكاذيب تخيّم علينا، فهناك أكاذيب مذهلة لدرجة الوقاحة حصلت خلال العام 2016، والأسوأ أنّها استطاعت التأثير على المتلقين. كالقول مثلاً إنّه سيتمّ إلزام المملكة المتحدة بدفع 350 مليون جنيه استرليني بسبب قرار خروجها من الإتحاد الأوروبي". وسأل: "كيف يمكن أن يتم ترويج أخبار كاذبة تجذب الناشطين عبر فيسبوك وغوغل، وترويج الحديث عن النازيين الجدد، من دون ردّة فعل قويّة، في الوقت الذي لا تقول الشركتان الإجتماعيتان، إلا أنّهما تسمحان ببث "إختلاف وجهات النظر"؟ هذه العبارة التي أصبحت تبريرًا لكلّ ما ينشر!".

ومن هنا أكّد أننا "لا نحتاج لمسيرات أو نشرات الأخبار اليوم، لأنّ لدينا إنترنت ووسائل تواصل إجتماعي، والجميع يُدمن عليها. وإذا طُرحت أخبار كاذبة، تفسّر ذلك المنصات الإخبارية بأنّها اختلاف لوجهات النظر، لذلك تتيح نشر الرأي والرأي المضاد ولو كان كاذبًا، لكن بذلك نكون أمام تعتيم للحقائق، حتى بات المتابعون يصدّقون الأكاذيب التي تنشر ويعشون في فلكها".

وممّا ينشر أيضًا ويصدّقه الناس هو أنّ كلّ قوي يريد أن يحارب "الإرهاب"، من الولايات المتحدة الى حلف شمال الأطلسي، وروسيا وحزب الله وإيران والخليج العربي – ما عدا اليمن- الصين، اليابان وأستراليا. فيما نشهد غيابًا لـ"العدل" في قاموس الجميع، بحسب فيسك، الذي أشار الى أنّ لا الصحافيين ولا السياسيين يتكلّمون عن العدالة، حتى ترامب وهيلاري كلينتون والبريطانيين الخارجين من الإتحاد الأوروبي لم يتحدثوا عنها.

وأوضح: "أنا لا أتكلّم عن العدل لضحايا الإرهاب، أو للبريطانيين الذين خدعهم الإتحاد الأوروبي، بل العدالة الحقيقية للأمم جمعاء، للشعوب، للشرق الأوسط، للفلسطينيين. إنّهم لا يعيشون في عالم بعد الحقيقة، بل بأكاذيب الآخرين لعقودٍ مضت".

وبالعودة الى الإعلام الغربي، قال فيسك: "ما يُنقل فيه هو أنّ ترامب هو هتلر. ترامب هو المسيح. الإنتحار الجماعي هو إعادة ولادة"، لكن على الرغم من كلّ ما يُشاع ويقال من تشبيه للرئيس الأميركي الجديد بهتلر، فترامب ليس ذلك الزعيم النازي، بالرغم من الصفات الفاشية التي تجمعهما.

واعتبر فيسك أنّ "من أبرز الزلازل السياسية التي حصلت خلال 2016 هو أننا بتنا نشعر بكمٍّ أقلّ من الكذب عندما نكرّر هذه الأكاذيب كلّها". وأضاف: "قد لا يفهم الجميع ما أقوله. لكن هناك كثيرين في الشرق الأوسط سيفهمون ما أعنيه. وربما لن يجدوا أمامهم سوى الضحك في النهاية".

(إندبندنت)