عوامل واعتبارات ووقائع عديدة تجلًّت بوضوح مع المساعي لتشكيل الحكومة العتيدة التي قد يطول تأليفها أكثر من المتوقع، طبعت انطلاقة العهد وضبطت منذ الآن ايقاع التعاطي السياسي لأهل الحكم فيه، مسلّطة الضوء على "سلوك" غير مسبوق على أساس قواعد غير مألوفة لدى الطبقة السياسية، جزء منها مرتبط بلعبة الأحجام والنفوذ في مستقبل سياسي لا يزال ملتبسًا وغامضًا بالنسبة إلى كافة الأفرقاء السياسيين، والجزء الآخر متعلّق بالذهنية السياسية المختلفة الى حدّ التناقض أحيانا على أعلى المستويات وفي أرفع مراكز السلطة، ما يزيد الأمور تعقيدًا ولا يبشّر بمسار سياسي سلس في هذا المرحلة الجديدة.


ومن أبرز الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها على وقع التفتيش عن حلول للألغام الوزارية، هو أنّ الجميع يبحث عبر التشكيلة الحكومية المنتظرة عن ثلث ضامن أو معطّل يؤمن من خلاله مصالحه ومصالح فريقه، وفي هذا المسعى تحديدًا حسابات جديدة ومستجدّة ترخي بظلالها على مبدأ توزيع الحصص لتزيده صعوبة.

ففي زمن فريقي 8 و14 آذار، كان الثلث المذكور أشبه بعملية حسابية مباشرة بين خطين واضحين بهدف تأمين منطق "الديمقراطية التوافقية" الذي يقوم عليه النظام اللبناني، وكانت معظم الجهات المسيحية تحديدًا ترى في هذا الثلث الذي يتحكّم به رئيس الجمهورية الى حدّ بعيد تعويضًا لما سلبه اتفاق الطائف من صلاحيات رئاسة الجمهورية لصالح الرئاسة الثالثة وصالح مجلس الوزراء.

أما اليوم، وفي ضوء الاصطفافات والتحالفات الجديدة، فليس من ثلث ضامن أو معطّل واضح تؤمنه جهة من هنا أو هناك الا في الأمور الاستراتيجية العريضة، حيث الاتفاق قائم بين رئيس الجمهورية و"حزب الله" بالوقوف معًا لتأمين مستلزمات الخط السياسي الإقليمي العريض. وفي ما عدا ذلك، أي في ما يتعلّق بالمسائل الداخلية، فالأمر غير محسوم في أي اتجاه، خصوصًا في تشكيلة الـ24 وزيرًا، حيث هامش التحكم بالثلث المؤثر يبدو أسهل المنال لكافة الأفرقاء، ما دفع بهم الى التزاحم على تأمينه، كلّ لصالحه، فتضاربت المساعي وكثرت العقد، فعاد كلّ فريق الى مربّعه، وفتح من جديد باب التفاوض على حكومة الثلاثين وزيرًا.

وبحسب ما أظهرته مساعي التشكيل حتى الساعة خصوصًا في ما يتعلّق بحكومة مصغرة، فإنّ حلف معراب يسعى الى كسب الثلث "المؤثر" عبر تأمين أكبر عدد ممكن من الوزراء "القواتيين" الذين، متى أضيفوا الى الوزراء العونيين، واحتسبت معهم حقيبة ميشال فرعون الذي من المنتظر أن يدخل الحكومة هذه المرة من باب معراب، سوف يقلبون الطاولة الحكومية لصالح الثنائي المسيحي، ما يفسّر إصرار حزب "القوات" على حصة وازنة له في التشكيلة المرتقبة وتفهّم "التيار" لهذا الأمر، أو أقلّه عدم معارضته أو عرقلته بشكل أساسي. ومع احتساب وزراء رئيس الجمهورية من ضمن هذا التحالف، تكون حصة الثنائي المسيحي الفعلية من حكومة الـ 24 وزيرًا قد تجاوزت الثلث المؤثر لتقارب النصف الحكومي، وفي ذلك واقع من الصعب أن يتقبّله رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، اذ فيه تعطيل لسلطته على فريقه الحكومي، ومن هنا استياءه من المطالب "القواتية" تحديدًا وعدم استعداده لتلبيتها كاملة.

من جهته، يحاول رئيس مجلس النواب تأمين الثلث العتيد عبر ترؤسه الجهات الأساسية التي كانت قد عارضت انتخاب عون، وعلى رأسها رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ما يفسّر إصراره على التفاوض بإسمها في موضوع الحكومة، وتمسّكه بإدخال وليد جنبلاط على الخطّ نفسه، اذ لا ثلث ضامنًا أو معطّلًا في وزارة الـ24 وزيرا يتحكّم به رئيس المجلس، أو أقلّه يمون عليه، من دون حصة الزعيم الدرزي، خصوصا بعد استبعاد الحزب السوري القومي الإجتماعي عن الحقائب في تركيبة حكومية مصغرة، وصعوبة توزير ثاني زعماء الدروز طلال أرسلان في هكذا حكومة ان لم يتنازل جنبلاط عن حقيبة لصالحه.

وقد كثر الكلام في الأيام الأخيرة عن استعداد جنبلاط للاستغناء عن مقعد وزاري لصالح أرسلان شرط أن يتولّى هذا الأخير الحقيبة الوزارية شخصيًا وألّا يكلّف أحد مقرّبيه بها، وفي ذلك إشارة واضحة الى نقطة أساسية ثانية تجلّت في مساعي التشكيل، هي التخوف مما سوف تؤول اليه الأمور في الانتخابات النيابية المقبلة. اذ لا شكّ في أنّ الأفرقاء السياسيين كافة يسعون الى حجز مقاعدهم الوزارية، الا أنّ عيون الجميع على الاستحقاق النيابي المقبل، حيث ترتسم خارطة النفوذ بشكل أساسي. واستعداد جنبلاط للتخلي عن حقيبة من حقيبتين لصالح أرسلان على رغم الخصومة السياسية بينهما في الطائفة الواحدة ليس الا انعكاسًا لتخوّف بات معمّما في الطوائف والمذاهب كافة من كيفية تأمين التمثيل والنفوذ الوازي في جوّ الثنائيات المهيمنة، من "حزب الله" و"أمل" الى "التيار العوني" و"القوات". ويخشى جنبلاط ما يخشاه مما قد يؤدي إليه "التحالف المعرابي" في الجبل ان قرّر الثنائي المسيحي خوض الاستحقاق النيابي مع منافسيه ضدّه، ما يفسّر استعجاله قيام ثنائية درزية انطلاقا من الحقائب الوزارية تكون مدخلا لتحالف درزي انتخابي بعد ستّة أشهر وتقفل الطريق أمام أي محاولة لعزله وإضعافه.

الصهران والعديلان!

والتحضيرات للانتخابات النيابية المقبلة حاضرة في "الشاردة والواردة" من مساعي التأليف الحكومي، من التسابق على الوزارات الأساسية بمفهومها الخدماتي في محاولة السياسيين تقوية حضورهم الشعبي على باب الاستحقاق النيابي، الى عمل "مؤلفي" الحكومة على استبعاد منافسيهم عن هذه الحقائب وعن الحكومة بالاجمال. وقد فُسّر سحب إسم صهر رئيس الجمهورية شامل روكز من التشكيلة أو التشكيلات الحكومية المقترحة لصالح صهر الرئيس الثاني - وهو فعليا الصهر الأول- جبران باسيل في هذا الإطار. اذ بالاضافة الى صعوبة توزير صهري عون في حكومة واحدة، لا شكّ في أنّ موضوع الانتخابات المقبلة قد شكّل حافزا أساسيا في تقديم باسيل على روكز، علما أنّ الاثنين يسعيان الى تعزيز نفوذهما العوني وشعبيتهما قبيل الانتخابات، وأنّه من المعلوم أنّ روكز أقوى "على الأرض" من عديله.

ويندرج تمسّك فرنجية بإحدى الوزارات الاساسية الثلاث، الاتصالات أوالطاقة أوالأشغال، وعدم قبوله بوزارة الثقافة المعروضة عليه في الإطار نفسه. ويأتي رفض البيك لوزارة الثقافة، على أهميتها، من إحساسه بأنّ البعض يحاول تحجيمه على الخريطة السياسية عبر تضعيفه قبل الانتخابات النيابية. وقد نقل عن فرنجية استياءه الشديد من إصرار هؤلاء على ايلاء "المردة" حقيبة الثقافة تحت عنوان أنها أساسية وخدماتية الى حدّ كبير، على رغم اقتناعه بأنّ ذلك غير صحيح ، الا أنّه مصرّ على عدم قبول أي حقيبة تعطى اليه كجائزة ترضية من قبل من يسعى الى عزله، الى درجة أنّه قال بلهجة شديدة لأحد مقرّبيه الذي حاول إقناعه بهذه الوزارة: "ليأخذها من يريد أعطاني إياها ما دامت بهذه الأهمية!"

وبعيدًا عن الثنائيات المستحدثة والاصطفافات المذهبية والسياسية الجديدة، لفتت مساعي التشكيل الى واقع آخر لا يمكن التنكّر له، هو صعوبة، ان لم يكن استحالة، التوفيق بين ذهنية رئيس الجمهورية وطبيعة رئيس المجلس، والرجلان في أعلى درجات الحكم ما يعني أنّ الاحتكاك بينهما متواصل، وبالتالي فانّ الأجواء بينهما لن تكون يومًا صافية ولا العمل سويّا سيكون أمرا بسيطًا وسلسًا. من عقدة المالية الى ما نقل عن تسمية عون لوزير شيعي استفزّ رئيس المجلس وعن مبادرة هذا الأخير الى الردّ بالمثل مسيحيًا، حكاية نكايات وتعنّت بين الرجلين لا يبشّر خيرًا.

وفي التفاصيل عن وزارة المال أنّ "العونيين" طالبوا باستبعاد الوزير علي حسن خليل لانه لا يتناسب مع التصور الإصلاحي للعهد، ما دفع ببرّي الى التمسك بوزيره "للمبدأ" كما تقول بعض الأوساط المتابعة للموضوع، أو الاستغناء عنه لصالح فرنجية فقط لا غير، وذلك من باب النكاية "والمعاملة بالمثل" والتذكير بأنّ أحدا لا يستطيع إملاء قواعد اللعبة السياسية عليه، علمًا أنّه في حال إيلاء وزارة المالية لفرنجية لا يمكن توزير باسيل في الخارجية على قاعدة توزيع الحقائب الأساسية الأربع على الطوائف والمذاهب الأساسية، بما أنّ باسيل وفرنجية هما مارونيان، ما يقفل تلقائيا الباب أمام تدخّل عوني في الشؤون "البِرّية". والمغزى من هذا الموضوع أنّ برّي، وهو المناور السياسي المحنّك، لن يخضع لأي محاولة لترويضه أو لأي لهجة تشعره بالاستفزاز، وهي لهجة يجيدها فريق عون بالاجمال، فلا عجب أن تبقى الأمور بين الجهتين "على صوص ونقطة"...

 

لبنان 24