لسنوات خلت كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدعو مجلس الأمن القومي الى الإجتماع في المناسبات. فاجتمع مرة واحدة للبحث في أزمة جورجيا وأخرى لأوكرانيا، وها هو مدعو للإجتماع ثلاث مرات شهرياً للملف السوري. فلماذا هذه العجلة وما هو المطروح من سيناريوهات تستدعي تعزيز الموقع الدولي لروسيا التي تقدّمت الى مرحلة توزيع أدوار الحلفاء والخصوم ودوزنتها؟ فكيف يمكن ترجمة هذه المعادلة؟يعترف زوار موسكو بأنّ القيادة الروسية تعيش مجداً لم تعشه قبلاً، تطوي فصولاً من أزماتها الإقتصادية والمالية، وتعضّ على الجرح، من أجل تعزيز حضورها الدولي من خلال مشاركتها في الأزمات الدولية تحضيراً لمرحلة مقبلة تعوّض فيها خسائرها وتُعزّز موقعها في المناطق الأكثر توتراً في العالم في مواجهة أحلاف دولية مشتّتة ومربكة تتعدَّد فيها الأهداف والغايات وسط تضارب المصالح.


في اختصار مفيد، يعود زوار موسكو بهذه الإنطباعات على أهميّتها ويتوسّعون في شرحها والبناء عليها لقراءة المستقبل في وضوح بعيداً من السيناريوهات الوهمية التي يرغب البعض في أن تتحوّل أمراً واقعاً، فيخطئون في التقدير ويبالغون بالتفاؤل ويبنون الأحلام على أكثر من مستوى.

ويضيف الزوار، لا تنطبق هذه القراءات على فئة من دون أخرى من طرفي المواجهة في الأزمة السورية، وهي تصحّ في مواقف المؤيّدين للنظام ومعارضيه المحليين والإقليميين على حدّ سواء. فلدى القيادة الروسية قراءة هادئة للتطورات والوقائع، فلا يغالون في البناء على انتصارات ولا يخشون الخسائر الكبرى بناءً على المعطيات الآتية:

- تدرك القيادة الروسية أنّ المفاوضات التي قادها وزيرا الخارجية الروسية سيرغي لافروف ونظيره الأميركي جون كيري لم تكن قادرة على استنباط الحلول السياسية للأزمة السورية.

فاعتبرت في مرحلة من المراحل أنها من أسوأ التجارب الدولية في التعاطي مع قضية بهذا الحجم، وخصوصاً لجهة التعاطي مع أطراف أخرى لم تلتق يوماً على هدف واحد، فاستُغل النظام ومعارضوه في المواجهة التدميرية التي لم تعشها أيّ دولة وتقاسم الجميع الخسائر بدلاً من الأرباح على أنقاض "مجتمع دولي" لم تؤمن به روسيا يوماً.

- تسعى القيادة الروسية الى تكريس أمر واقع جديد في أكثر المناطق سخونة في سوريا، فتجنّبت الى اليوم أيّ مواجهة مع "داعش" وخصصت قدراتها العسكرية لضرب القوى المعارِضة الأخرى التي كانت تستظلّ رضى واشنطن والحلف الدولي - العربي ضد الإرهاب تاركة المهمة الى حلفاء قدامى وجدد في طهران وأنقرة فوزّعت الأدوار عليهم بكلّ دقة في ظلّ واقع دولي مثالي.

- تدرك القيادة الروسية أنّ أمامها مهلة قصيرة لتغيير وجهة التطورات في سوريا، فالإدارة الأميركية تعيش فترة انتقالية على مستوى السلطة لم تتغيّر فيها الإستراتيجية التي أرادها الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي يستعد لمغادرة البيت الأبيض، فاعتبرت في رأيها فترة مكملة لها.

وهي تنتظر المفاجآت التي يمكن أن يطلّ بها الرئيس الجديد دونالد ترامب في مرحلة لا يتوقع أن تكون عملية قبل الربيع المقبل، لتكون مهلة الأشهر الستة التي تلي تسلّمه السلطة كافية لتركيز مشاريعه وتحديد سقوفها الجديدة. فكلّ ما عبّر عنه ترامب في مرحلة الإنتخابات ليس من الثوابت ومَن يحكم البيت الأبيض عليه أن يحتسب كثيراً من العواقب المرتقبة لأيّ قرار يتّخذه وحسناته.

- تراقب القيادة الروسية تفكك الحلف العربي والدولي بعدما فشلت واشنطن في توحيد رؤى أطرافه. والى تغريدها خارج السرب الدولي عبّرت تركيا منذ أن دخلت الأراضي السورية من بوابة جرابلس عن استقلالية شكلت بسلوكها افتراقاً ملحوظاً مع حلفاء سابقين لها، وهو ما سهّل على موسكو نسج علاقات وتفاهمات مستقلّة ومنفردة مع أنقرة لم تراع مصالح بقية أطراف الحلف، لا بل زادت من تفككه والشعور بالخيبة المتبادلة والتشكيك في النيات مقابل التزام أنقرة خطوطاً حمراً مرسومة بدقة متناهية.

- نجحت موسكو في وضع ترتيبات عسكرية وأمنية مع تل ابيب، فأبعدتها عملياً من حلفها مع واشنطن في ما خص الأزمة السورية وضمنت لها جبهة هادئة على طول خط الجولان المحتل وهو ما لم تقدّمه لها أيّ قوة دولية حليفة أو عدوّة أخرى.

وحظّرت على حلفائها الإيرانيين و"حزب الله" القيام بأيّ نشاط محتمل في تلك المنطقة بعد ضرب قياداتهما في المنطقة فضمنت لها نسبة عالية من أمنها القومي الذي لم يهتزّ يوماً رغم ضراوة ما يحصل على الأراضي السورية.

- أعادت موسكو رسم حدود لحلفائها المحليين، والى تحديدها سقف النظام السوري ودوره المحدود بعد حماية العاصمة والساحل السوري الشمالي من أيّ خطر محتمل.

والتزمت إيران الدور الذي حدّدته موسكو وكذلك "حزب الله" وتركت لهم هامشاً محدّداً من الحركة يسمح بنوع من التوازن الدقيق بين مختلف الأطراف المتقاتلين. فتواصلت عمليات الكرّ والفرّ ضمن خطوط تماس محدودة لا تسمح بانتصار أيّ منهما. وهو ما يُعزّز نظرة موسكو الى أنّ انتصاراتها تكمن في تحجيم المعارضة وحماية النظام لا أكثر ولا أقل.

وبناءً على ما تقدّم، يُصرّ زوار موسكو على القول إنّ الحشد العسكري الروسي في البحر المتوسط بما يختزنه من تكنولوجيا عسكرية لم تستخدمها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية لا يهدف سوى الى رسم مشهدية جديدة تعطيها الأولوية في الحلّ والربط وضماناً لبقائها عقوداً من الزمن في المنطقة الدافئة، في انتظار الآتي من الأيام وما يمكن أن تأتي به الإدارة الأميركية الجديدة من مفاجآت.

فهي تحتسبها وتراقب بدقة طريقة تركيب ترامب لطاقمه الجديد في الإدارتين الخارجية والعسكرية وهي لا تتلمّس من اليوم أيّ قراءة ثابتة وهي تستعدّ لكلّ أشكال المغامرات مع ثابتة وحيدة تكمن في أنّ موسكو تتعايش تاريخياً بنحو أفضل مع الجمهوريين الأميركيين وأنّ تجاربها الفاشلة مع الديموقراطيين لا يمكن أن تنساها.

(الجمهورية)