قبل بضعة أسابيع، بدأ شخص داخل الموصل بإرسال رسائل نصية إلى المخابرات العسكرية العراقية في بغداد.


قالت الرسالة التي كتبها في أوائل تشرين الثاني مخبر سري داخل المدينة على اتصال بالتنظيم -وإن لم يكن عضوا فيه- عن أبي بكر البغدادي رأس الدولة الإسلامية: "لقد أصبح مشدود الأعصاب". وأضافت الرسالة أن البغدادي "خفف من تنقلاته، وأهمل مظهره، حتى أناقة البغدادي تغيرت. كان يهتم كثيرا بمظهره، لكنه لم يعد كذلك". وتابعت: "يعيش تحت الأرض، ولديه أنفاق تمتد إلى مناطق أخرى، ولا ينام من دون حزامه الناسف؛ حتى يستطيع استخدامه لو تم اعتقاله".

وكانت الرسالة النصية التي اطلعت عليها رويترز واحدة من رسائل عديدة تصف ما يحدث داخل الدولة الإسلامية، في الوقت الذي بدأت فيه القوات العراقية والكردية والأميركية حملتها لاسترداد مدينة الموصل، معقل التنظيم، في شمال العراق. وترسم تلك الرسائل ومقابلات مع مسؤولين أكراد كبار ومقاتلَيْن من التنظيم، وقعا في الأسر في الآونة الأخيرة، صورة مفصلة على غير المعتاد للجماعة، والحالة الذهنية لزعيمها، فيما قد يكون آخر وقفة لهما في العراق.

وتصف الرسائل أن الجماعة وزعيمها ما زالا يتمتعان بالقدرة على الفتك، ويتملكهما في الوقت نفسه شعور متزايد بالارتياب. وقالت الرسائل إن إعدام من يحاولون الهرب أو المخبرين أصبح يحدث بانتظام. وأصبح البغدادي -الذي نصب نفسه خليفة على مساحة شاسعة من العراق وسوريا قبل عامين- يرتاب بصفة خاصة فيمن حوله.

وجاء في إحدى الرسائل: "بصراحة سلوك البغدادي بات مريبا جدا، ويشك في أقرب الناس إليه. كان في السابق يمازحنا، لكنه اليوم لا يمازح أحدا". واستطاعت "رويترز" التحقق من هوية المخبر الذي يراسل المخابرات العسكرية العراقية، لكنها لم تستطع التأكد من مصادر مستقلة من صحة المعلومات الواردة في رسائله. لكن الصورة التي ترسمها الرسائل تتفق مع الاستخبارات، التي استند إليها اثنان من المسؤولين الأكراد، هما: مسرور البرزاني رئيس مجلس الأمن التابع لحكومة إقليم كردستان، ولاهور طالباني رئيس عمليات مكافحة الإرهاب ومدير وكالة الاستخبارات بالإقليم.

وقال طالباني ورؤساء أجهزة استخبارات أخرى إن التحالف العسكري يحرز تقدما بطيئا، وإن كان مطردا، في مواجهة "داعش"، وقالوا إن للتحالف إمكانيات هائلة داخل الموصل، منها مخبرون مدربون، وبعض السكان الذين ينفذون عمليات مراقبة أكثر بساطة بإرسال رسائل نصية أو عبر الهاتف من ضواحي المدينة. ولبعض المخبرين أسر في كردستان تدفع لها حكومة الإقليم أموالا.

ويعتقد الأكراد أن الهجوم العسكري على الموصل -الذي بدأ في 17 تشرين الأول- يغذي الشعور بالخوف والارتياب لدى التنظيم. وقالوا إن استحواذ فكرة القضاء على كل من قد يخون الجماعة قد يسهم في الأجل القصير في حفز المقاتلين على الدفاع عن الموصل. لكن هذا الاستحواذ أيضا معناه أن الجماعة انغلقت على نفسها في وقت تواجه فيه أخطر تهديد لوجودها في العراق منذ السيطرة على نحو ثلث الأراضي العراقية في صيف 2014.

وقال كريم السنجاري، وزير الداخلية القائم بأعمال وزير الدفاع في إقليم كردستان الخاضع لسيطرة الأكراد في شمال العراق، إن عدد الإعدامات علامة واضحة على أن التنظيم بدأ يشعر بوطأة الضغوط. وقال أيضا إن العديد من المقاتلين العراقيين المحليين في صفوف قوات التنظيم يعوزهم ما لدى الجهاديين من إيمان قوي بالاستشهاد. وأضاف: "معظم الانتحاريين الذين يقاتلون حتى الموت هم مقاتلون أجانب، لكن عددهم على الجبهات أقل من السابق؛ لأنهم يقتلون في المعارك وفي العمليات الانتحارية".

فيما قال البرزاني إن الارتياب المتنامي دفع البغدادي وكبار قادته إلى كثرة التنقل، الأمر الذي يؤثر تأثيرا سلبيا آخر على قدرة التنظيم على الدفاع عن المدينة. وقال البرزاني إن البغدادي "يستخدم كل الأساليب المختلفة للاختباء وحماية نفسه، فيغير مواقعه، ويستخدم وسائل مختلفة للتنقل، ويعيش في مواقع مختلفة، ويستخدم وسائل اتصال مختلفة". ورأى المسؤولون الأكراد أنه إذا أخرج التحالف العسكري الدولة الإسلامية من الموصل فمن المرجح أن تلجأ الجماعة إلى سوريا، حيث ستشكل تهديدا مستمرا للعراق من خلال الهجمات الانتحارية المتكررة وغيرها من أساليب حرب العصابات.

مخاطر شريحة الهاتف

كان الارتياب دائما سمة من سمات "داعش". وقد اعتمد حكم التنظيم في سوريا والعراق في جانب كبير منه على شبكة واسعة من الاستخبارات التي تستخدم الجميع من الأطفال إلى الضباط البعثيين السابقين ممن اكتسبوا خبرات قتالية للتجسس على رعايا التنظيم ومسؤوليه. ويبدو أن هذا الارتياب بلغ مستويات جديدة مع تقدم أعداء التنظيم؛ فقد تنامى الشعور بالارتياب قبل أن تبدأ القوات الحكومية محاصرة الموصل في منتصف تشرين الأول.

وقال سكان في الموصل ومسؤولون أمنيون عراقيون إن قيادات التنظيم كشفت في أوائل الشهر الماضي مؤامرة داخلية على البغدادي. وتم إحباط المؤامرة التي دبرها أحد القادة البارزين في "داعش" عندما عثر مسؤول أمني في التنظيم على شريحة هاتف تضمنت أسماء المتآمرين، وأوضحت صلاتهم بضباط في الاستخبارات الأميركية والكردية. وقال السكان والمسؤولون العراقيون إن العقاب كان وحشيا؛ إذ أعدم التنظيم 58 شخصا دارت الشبهات حول مشاركتهم في المؤامرة، وذلك بوضعهم في أقفاص وإغراقهم.

وقال ضباط في الاستخبارات العراقية إن التنظيم أعدم منذ ذلك الحين 42 شخصا آخرين من عشائر محلية بعد أن ضبطوا ومعهم شرائح هواتف.

وقال سكان في مناطق خاضعة لسيطرة التنظيم إن امتلاك شريحة هاتف الآن أو أي وسيلة اتصال إلكتروني أخرى معناه حكم تلقائي بالإعدام. وقد أقام التنظيم حواجز أمنية يفتش المسلحون فيها الناس، ويداهمون بانتظام المناطق التي قصفتها الضربات الجوية الأميركية؛ لأن مسؤولي التنظيم يفترضون أن السكان المحليين ساعدوا في تحديد الأهداف.

ويدرك المخبر الذي بعث بالرسائل النصية من الموصل تلك الأخطار. فقد بدأ إحدى الرسائل مؤخرا بقوله: "أنا أتكلم معك من على السطح، الآن الطائرات في السماء.. ما إن أنزل حتى ألغي الرسائل النصية وأخفي شريحة الهاتف".

"أشبال الخلافة"


يعتمد "داعش" على شبكة من المخبرين الأطفال الذين يطلق عليهم لقب "أشبال الخلافة". وقال هشام الهاشمي مستشار الحكومة العراقية، الخبير في شؤون التنظيم: "هؤلاء الصبية أشبال الخلافة يتنصتون ويجمعون معلومات من أولاد آخرين عن آبائهم وإخوتهم وتحركاتهم. في كل شارع هناك واحد أو اثنان من هؤلاء الذين يتجسسون على الكبار".

ويقول لاهور طالباني، الذي يتولى قيادة مكافحة الإرهاب في حكومة إقليم كردستان، إن الشبكة الهائلة من المخبرين تضر أيضا بتنظيم الدولة. ولضخامة حجم المعلومات الواردة تخصص الجماعة جانبا كبيرا من طاقتها لمن يخضعون لحكمها بدلا من أعدائها، وهذا ما يغذي الشعور بالارتياب بدوره.

وقال طالباني لرويترز: "المؤامرات الداخلية على البغدادي متكررة، ونحن نشهد أحداثا من هذا النوع أسبوعيا تقريبا، وهم يقضون على رجالهم". وأضاف أنه حتى بضعة أشهر مضت كان له عميل سري في الدائرة المقربة من البغدادي عمل قائدا في التنظيم، وكان ينتمي من قبل لتنظيم القاعدة. وتابع مستخدما الاسم الشائع للتنظيم: "كان كرديا، ولد في الحويجة، وكان واحدا من المعتقلين لدي. أفرجت عنه قبل عام من وصول داعش".

وبعد سقوط الموصل في أيدي التنظيم، تسلل القائد الذي أصبح عميلا في صفوفه، وأصبح ضابطا عسكريا. وبدأ من موقعه يغذي الأكراد "بمعلومات يومية قيمة".

وقال العميل لطالباني إن البغدادي تشاور مع كبار مساعديه، ومن بينهم سعوديون، قال إنهم من المتفقهين في الشريعة الإسلامية. وكانت السعودية قد أعلنت وجود رعايا سعوديين في صفوف التنظيم. وأضاف: "أبلغني أن البغدادي له هيبة وله اتصالات، غير أنه واجهة، وأن اللجان من حوله تتخذ القرارات الرئيسية حتى على الصعيد العسكري".

الذبح

في لقاء نادر، روى اثنان من مقاتلي تنظيم الدولة وقعا في الأسر الأسبوع الماضي الأساليب الوحشية التي يتبعها التنظيم. فقد التقت رويترز بالاثنين في مجمع كردي لمكافحة الإرهاب في مدينة السليمانية. وحضر مسؤول من الاستخبارات الكردية وضابط استجواب المقابلتين، لكنهما لم يتدخلا.

وقع علي قحطان (21 عاما) في الأسر بعد أن قتل خمسة مقاتلين أكرادا في مركز للشرطة، فسقط في أيدي رجال التنظيم بمدينة الحويجة الشمالية. وقال قحطان إن مسيرته نحو التطرف بدأت في سن الثالثة عشرة؛ فقد أصبح عضوا في تنظيم القاعدة، ثم انضم إلى تنظيم الدولة عندما صحبه صديق لحضور دروس دينية وللمشاركة في تدريب عسكري في مسجد بالحويجة. ولفت الى أن التدريب اشتمل على تعلم استخدام الرشاشات والمسدسات، كما تعلم المتدربون كيفية ذبح الأشخاص باستخدام سكين البندقية، الكلاشنيكوف.

المعركة

يقول مسؤولو الاستخبارات العراقيون إنهم يعتقدون أن البغدادي ليس في الموصل، بل في قضاء البعاج، وهي منطقة بدوية على أطراف محافظة نينوى المتاخمة لسوريا. ويبلغ عدد سكان البعاج حوالي 20 ألف نسمة، ويهيمن عليه مقاتلون موالون لـ"داعش". وهذه المنطقة محصنة تحصينا كبيرا، وفيها أنفاق طويلة أقيمت بعد سقوط صدام حسين عندما أصبحت البلدة نقطة انطلاق لعمليات تهريب السلاح والمتطوعين من سوريا إلى العراق.

وقال طالباني إنه حتى إذا سقطت الموصل والبغدادي، فمن المرجح أن يستمر نشاط التنظيم. وأضاف: "سيعودون مرة أخرى إلى أساليب الحرب غير التقليدية، وسنشهد هجمات انتحارية داخل إقليم كردستان وداخل المدن العراقية وغيرها". واتفق البرزاني معه في الرأي، فقال: "الحرب على الدولة الإسلامية ستكون حربا طويلة. ليس على المستوى العسكري وحده، بل على المستويات الاقتصادية والعقائدية".

(رويترز - عربي 21)