أنه مجرد إعادة شريط الذاكرة شهراً إلى الوراء كفيلة باستذكار جرائم تكاثرت بشكل طفيلي خلال فترة زمنية قصيرة لم تتعدَ الثلاثين يوماً، سقطت معها آخر حبات العقد الاجتماعي الهزيل وهزّت الرأي العام اللبناني، لتؤسس ببشاعتها أساساً ليس بهزيل لظاهرة لا تقل بشاعة وهي استسهال الجريمة. والأغرب استسهالها ليس فردياً وبحق من هو خصم أو عدو أو أي شخص غير معروف بالنسبة لمرتكبي هذه الجرائم بل جماعي وبحق الصديق والجار وأفراد العائلة أيضاً.

مرور سريع على أحداث "التشرينين" وتحديداً ما بين 13 تشرين الأول و13 تشرين الثاني نستذكر أربع جرائم جماعية لا فردية شكّل حصول بعضها صدمة للبنانيين. وهي إذا أردنا استعراضها على وجه السرعة، كانت: جريمة عشقوت في 13 تشرين الأول الماضي والتي راح ضحيتها 4 أشخاص جان-بول حب الله ووالده جان يوسف حب الله ووالدته إيزابيل الشدياق وجارهم أنطوان الشدياق وهم الذين أنهى حياتهم جارهم المؤهّل أول طوني عبود. وفي تاريخ 2 تشرين الثاني الحالي أطلق اللبناني فاضل جباضو المقيم في ولاية فلوريدا الأميركية النار على ابنه الاصغر وزوجته ومحاميه في شؤون العقارات في مكتبه. وأقدم المدعو يوسف سعدو في عكار في 10 تشرين الحالي على إطلاق النار على ولديه محمد ابن الـ 7 سنوات وعلي ابن الـ 5 سنوات وأرداهما ليقتل نفسه بعد ذلك بإطلاق النار على نفسه. وقبل يومين أقدم المدعو ع.ق على إطلاق النار على شقيقي زوجته لأسباب عائلية وذلك في منطقة القبة – طرابلس.

وأمام ارتفاع نسبة الخوف من استشراس هذا النوع من الجرائم وخشية أن تصبح مشهداً أسبوعياً أو شهرياً عادياً في ظل مشاهد العنف اليومي المنتشر حول العالم والذي أصبح قوتاً مسائياً للمواطن اللبناني يتلقنه يومياً بكل سهولة عبر وسائل متعددة تبدأ بالتلفزيون ولا تنتهي بالهاتف الشخصي ومواقع التواصل الاجتماعي، يصبح السؤال حقا مشروعا. فما هي الأسباب التي تندرج ضمنها هذه الجرائم، على من تقع المسؤولية أولاً وثانياً وأخيراً، هل نحن أمام ظاهرة استسهال القتل الجماعي فعلاً، وما هي الحلول ومن أي بوابة يمكن العبور إليها؟

الأسباب

للإجابة عن هذه التساؤلات كان لـ"البلد" حديث مع الاختصاصي في علم النفس الاجتماعي الدكتور زهير حطب، الذي لا يضع الجرائم التي تحصل في خانة التعبير عن عنف جماعي في البلد وحسب، بل إلى جانب العنف الجماعي في البلد هناك أسباب موضوعية تتعلق بصعوبة العيش وصعوبة تأمين احتياجات المعيشة والشعور بالأمان والطمأنينة. ويرى بأنه كيفما ننظر إلى الحالات التي تحصل نصل بالنهاية لضرورة النظر إليها من مقاربة دولتية قانونية، علماً أن هناك بعض الحالات تكون مرضية شخصية.

وعن شعور المجرم لحظة ارتكاب جريمته يقول حطب، "في بعض الجرائم يمكن أن يكون إحساس المجرم الذي يرتكب الجريمة بأنه يسلسل الأمور لأنه يرى في الحياة صعوبات أو تعديات، بمعنى أن تعدّيه هو أو الجرم الذي يرتكبه مثله مثل الجرائم الأخرى الموجودة والتي تنتشر بين العالم ككل، ولها طابع اقتصادي، اجتماعي أو سياسي، ولكن هو عبّر عنها بالسلاح. ما يعني أن الاستخفاف بالحياة ليس فقط بالقتل، فعندما يكون هناك دولة تستخف بمواطنيها على مدى سنوات وتتركهم ما دون خط العيش الكريم وبحالة القلق الدائم فهذا يعادل الاعتداء على الأشخاص كأفراد، وهذا الأمر الذي يؤدي إلى الجريمة واستسهال القيام بها من قبل بعض الأشخاص".

ظاهرة جديدة

ومن هنا يرى حطب "أننا أصبحنا أمام اعتداءات مستمرة أحيانا تصيب مجموعة وأحيانا تصيب أفرادا، وكل شخص يعيش في هذا الجو هو عرضة ليكون ضحية من ضحايا الوضع المستمر والمستشري". ولا ينفي أننا أمام ظاهرة جديدة من نوع الجريمة، وهي استسهال القتل الجماعي ليس فقط بحق الجار أو الصديق أو أي شخص غريب بل بحق أفراد العائلة الواحدة أيضاً من زوج وزوجة وأبناء وأخوة، فـ"هناك ظواهر تكون موجودة بنسب كبيرة وأخرى تكون موجودة ولو بنسب متدنية". والسبب أن نظام القيم الذي ينتمي اليه الشخص ويعطيه الانتماء والاحترام، بات يفتقد اليوم قوة الضغط على الآخر، ليصبح الآخر الذي كان ينصاع لها في تراجع مستمر لهذا الاحترام (احترام نظام القيم)، وبالتالي فقد المرتكب قيمة الحياة تجاه أي أحد سواء من أفراد عائلته أو أحد المارة أو أحد الخصوم بمسألة تجارية أو علاقة اجتماعية وسقطت كل الاعتبارات والقيم لديه".

ويوضح حطب بأنه ليس المقصود اليوم هو خروج اجتماعي فقط أو خروج ديني وحسب عن نظام القيم، بل أصبح خروجا عن كل ما هو مألوف في المجتمع الانساني الأولي للحياة الجماعية، وأصبحنا مهددين على المستوى البدائي والأولي البسيط جدا. لذلك نرى الناس تهرب من أن تكون موجودة في مناسبات جماعية أو إطلالات لها طابع معين. فلا يجرؤ اللبناني اليوم على الاحتكاك مع الآخرين لأنه لا يعرف متى هذا الاحتكاك قد يعرّضه لاعتداء أو يعرضه لمشكلة إلا إذا كانت تلك التجمعات لها طابع حزبي أو سياسي لأن الحزب حينها هو من يؤمّن الحماية لها".

الحلول

ولا يستبعد حطب بأن مشاهد العنف المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة لها دورها الأساسي في استسهال الجريمة وانتشارها، فـ"مسلسل أخبار العنف اليومي سواء كان عنفا قانونيا أو غير قانوني رسمي أو لا رسمي دولتي أو لا دولتي، يجعل الأشخاص الذين يشاهدونه يعتبرون بأن الحياة في المجتمعات صارت قائمة على القتل والعنف والموت. وبالتالي أول تعليق يقوله هؤلاء (الحمدلله ما زالت أعداد الجريمة في مجتمعاتنا مقبولة أو تحت السيطرة، بعدنا أحسن من غيرنا...) وغيرها من العبارات التي تبرر الموت والقتل الجماعي. فصور العنف المنتشر في العالم يخفف من غلواء وتأثير وصدمة الرأي العام المحلي كلما تحصل حادثة عنفية في البلد".

وعن الحلول، يؤكد حطب بأنه إذا لن يسترجع المواطنون شعورهم بأنهم يعيشون في دولة، يُعتقد بأن الظاهرة ستتوسع وتنتشر، لا سيما إن بقينا على حالة الأمر الواقع كما هو موجود اليوم، فالحل لا يكون إلا بوجود دولة تطبق القوانين من قبل مجموعات لها سلطة قانونية تطال الجميع دون استنسابية وتُشعر المواطنين بأنهم يعيشون في دولة تؤمّن لهم أدنى مستويات العيش الكريم وتمنحهم أقل حقوقهم المشروعة.

(البلد)