ربما كانت انتخابات الرئاسة الأميركية في سنة 2016 أكبر إساءة للديمقراطية الأميركية ومؤسساتها، فقد تبادل المنافسان الرئيسيان، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، الاتهامات والشتائم، وتبادل مكاتبهما وقادة حملاتهما كشف الفضائح وإزاحة الستار عن أشياء ما كانت تخطر ببال الناخب البسيط.

وأمام هذا الواقع الذي كشفت عنه الحملات الانتخابية، يتساءل المتابع: إذا كانت الفضائح داخل الولايات المتحدة الأميركية بهذا الحجم رغم جيش المؤسسات العملاقة الذي يراقب حركات وسكنات الإدارة والأحزاب والساسة، فماذا عن الفساد والأخطاء في السياسة الخارجية، ولا سيما أنه لا مقارنة لحجم الشفافية والرقابة في هذا المجال؟

الظاهر في خطابات الملياردير ترامب واستعراضاته الانتخابية أنّه لا يملك تصورا واضحا عن السياسة الخارجية، وقد وصفته كلينتون بعبارة مثيرة بقولها “لا يجب أن نضع قريبا من أزرار إطلاق الصواريخ النووية شخصا تستفزه تغريدة على تويتر”.

لكن ترامب في هذه المقارنة يقف إلى الجانب الأمين تقريبا، لأنه لم يتولّ منصبا دبلوماسيا أو سياسيا يضعه تحت الضوء، إلا أنّه مع ذلك أطلق جملة وعود بشأن سياسة منع المسلمين والمكسيكيين من الهجرة إلى الولايات المتحدة التي يزمع اتّباعها حال توليه الرئاسة، وهي وعود لم ينظر إليها الكثيرون بعين الجد.

في هذه الحالة، فإنّ أحدا لا يملك إلا أن يتعامل مع قرارات سيتخذها مستشاروه المقربون ويضعونها على طاولته بشأن السياسة الخارجية، وهؤلاء غالبا هم من المحافظين الجدد وصقور البيت الأبيض في عهد بوش الأب وبوش الابن. أمّا هيلاري كلينتون، فإنّ مواقفها السياسية في العالم العربي وفي الشرق الأوسط لا يصفها أحد بـ”الناجحة”. وإذا كان البعض يحاول أن يحمّل هيلاري وحدها مسؤولية الإخفاقات والفشل، فإن الكثيرين سيُسقطون فشلها على عموم سياسات الحزب الديمقراطي سواء كان أوباما على رأسه أو تربعت هيلاري على قمة قيادته وقيادة الأمة الأميركية.

والعالم العربي اليوم، يقف في الحقيقة بين سياسة شعبوية بشّر بها ترامب وكشفت عنها حجم قاعدته الجماهيرية اليمينية الشعبوية المتعاظمة، وبين سياسة نخبوية متراخية طالما اشتهر بها الديمقراطيون الأميركيون، وطالما دفع الشرق الأوسط والعالم العربي ثمنا لهذه السياسة.

الكثير من العرب استقبلوا رئاسة باراك أوباما بترحاب وحسن ظن لكن سياسته أفضت إلى نتائج مخيبة للآمال

إرث أوباما

ولايتا الرئيس الأميركي باراك أوباما رغم أن الكثير من العرب والمسلمين في عموم العالم قد استقبلوها بترحاب وحسن ظن، أفضت في الحقيقة إلى نتائج خيبت آمالهم، رغم أنّه حقق واحدا من أعظم إنجازات الحرب على الإرهاب -المختلف حولها عربيا حتى في التسمية- وذلك من خلال القضاء على أسامة بن لادن، مؤسس وزعيم تنظيم القاعدة.

لكن هذا الإنجاز سرعان ما طغى عليه ظهور تنظيم الدولة الإسلامية على ميدان السياسة الدولية قادما من العدم! وتمدده السريع في العراق وسوريا وليبيا واليمن ومناطق أخرى صغيرة في العالم.

مقابل هذا، شهدت الولاية الثانية للرئيس أوباما تسونامي الربيع العربي وتداعياته المستمرة إلى إشعار آخر. على أن نأخذ بعين الاعتبار اختلاف الشعوب حول تسميته الإعلامية واختلاف الشعوب وقوى المنطقة حول نتائجه، التي إن شاء المراقب أن يصفها بإيجاز فهي”كارثية”، أو بنيّة أحسن، “فوضوية”، فنقترب ثانية من نظرية مستشارة الأمن القومي الأميركي السابقة كونداليزا رايس حول “الفوضى الخلاقة”، هل تعيش المنطقة عصر الفوضى الخلاقة؟ وهل ما جرى في بلدان الربيع العربي هو ارتدادات لمبدأ الدومينو التي سقطت أولى قطعها بساحة العراق في 9 أبريل 2003.

الإخفاق الأول جاء في الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011 كما خططت له إدارة الرئيس جورج بوش الابن وكما نفذته إدارة اوباما، وهو انسحاب وصفه أغلب الجمهوريين بأنّه قد ضيّع كل استراتيجيات الولايات المتحدة في العراق وكل تريليونات الدولارات التي أنفقتها لجعل العراق نموذجا للديمقراطية في المنطقة يحاكي ألمانيا في أوروبا، واليابان في آسيا بعد الحرب العالمية الثانية، و”سلمه لقمة سائغة إلى إيران”.

لكن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق شاسعة من العراق، أجبرت الولايات المتحدة أن تدخل في تحالف دولي، وتعيد إرسال قوات وطائرات إلى العراق للقضاء على التنظيم، وهو ما يعتبر من الناحية السياسية تراجعا لإدارة أوباما عن قرار رفع اليد بشكل كامل عن الملف العراقي.


سنوات باراك أوباما
الكثيرون وجهوا نقدا لاذعا لسياسات الإدارة الديمقراطية وعلى رأسها أوباما ووزيرة خارجيته خلال اندلاع الربيع العربي هيلاري كلينتون (من 2009 وحتى 2013 حيث غادرت المنصب ظاهريا لأسباب صحية وفي حقيقة الأمر لفشلها في إدارة ذلك الملف).

وحين قرر الغرب -تقوده الولايات المتحدة- أن يفعل شيئا في الربيع العربي، تدخل وساعد “ثوار ليبيا” بفصائلهم المختلفة على إسقاط العقيد الليبي معمر القذافي، وانتهى المشهد بمساعدة الإدارة الأميركية وتسليحها لفصائل معادية لها للوصول إلى مركز القوة في ليبيا.

وتوّج الفشل بهجوم نفس تلك العناصر المتشددة على القنصلية الأميركية في 11 سبتمبر 2012، متزامنا مع الذكرى الحادية عشرة لهجمات 11 سبتمبر 2010. جرى الهجوم بأسلحة نارية صغيرة وقنابل يدوية وأسفر عن مقتل السفير الأميركي في ليبيا كريستوفر ستيفنز وإداري المعلومات الخارجية شون سميث وموظف الأمن الأميركي الخاص غلين دوهرتي.

وقد اعتبر الهجوم إخفاقا ذريعا في تقديرات الخارجية الأميركية وقرارات رئيستها آنذاك هيلاري كلينتون. وتشرذمَ المشهد الليبي بعد أن رفعت الولايات المتحدة يدها عنه بشكل مفاجئ، وكأنّ إدارة الديمقراطيين ندمت لتسرعها في التدخل بليبيا فتراجعت عن كل شيء.

ليبيا اليوم مرشحة لأن تكون دولة عصابات وقراصنة تهدد كل دول المنطقة العربية ودولا أفريقية مجاورة وحتى أوروبا عبر منافذها إلى البحر الأبيض المتوسط بمواجهة الساحل الليبي التائه، وهو ما يحتم على الرئيس الأميركي الجديد أن يعيد النظر في سياسة بلاده في ليبيا.

ما لم تفعله الولايات المتحدة -رغم أنها كانت دائما موجودة- في سوريا ، أوصل المشهد إلى ما هو عليه الآن من خراب ودموية، وهو يوشك أن يدخل عامه السادس بهذا الوضع، ولا أمل واضحا في انفراج قريب، أو حتى في إمكانية الوصول إلى حل توفيقي.


السلام في الشرق الأوسط

دعمت الولايات المتحدة والغرب منذ البداية إرادة التغيير في سوريا ووقفت إلى جانبها في هذا الدعم معظم دول الخليج، واصطفوا جميعا إلى جانب القوى المعارضة التي سعت سلميا ثم حربيا إلى إسقاط بشار الأسد (ولم يتحدث أحد عن إسقاط نظام حزب البعث وهذا يثير أسئلة عن سياسة الاحتواء التي عرفت بها الإدارات الديمقراطية).

في المقابل، احتشدت إيران وحزب الله اللبناني وأحزاب شيعية عراقية إلى جانب نظام بشار الأسد في تحالف اتخذ شكلا طائفيا ضد التحالف الغربي العربي. وسرعان ما قادت روسيا هذا التحالف بعد أن قررت التدخل بشكل مباشر في سوريا ابتداء من أواخر عام 2015. وخلقت هذه المواقف استقطابا كبيرا، سوف لن يمكن لأيّ إدارة أميركية أن تغيّره بسرعة.

مع سوريا احتقن الموقف في لبنان كالعادة؛ ولعل انفراج أزمة الرئاسة اللبنانية قبل أيام من حسم الانتخابات الأميركية سيلفت نظر الإدارة الجديدة إلى أهمية الوصول إلى استقرار في هذا البلد. أما تونس التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي، فتبقى بعيدة نسبيا عن دائرة الاهتمام الأميركي، فالدول المغاربية مازالت بشكل أو بآخر قريبة من اهتمام فرنسا وإلى حدّ ما إيطاليا.

موقف الولايات المتحدة غير الواضح وغير الحاسم من التغيير في مصر أفضى إلى انقسام الطبقة السياسية فيها بين مؤيد داعم للإخوان المسلمين وخطتهم المنظّمة لإلباس المنطقة جبة الإسلام السياسي على الطريقة الإيرانية، وبين داعم لسياسة الرئيس عبدالفتاح السيسي وخطواته الجادة في محاربة الحركات الإسلامية. فهل نشهد في عهد الرئيس الأميركي الجديد سياسة أخرى تجاه مصر.

تطورات الملف النووي الإيراني التي وصلت إلى تسوية بين الغرب والولايات المتحدة الأميركية وبين الحكومة الإيرانية لم ترض الكثيرين في المنطقة وحتى في الغرب
من المنعطفات الخطيرة التي دخلت فيها إدارة الرئيس أوباما من خلال هيئاتها التشريعية، قانون جاستا وهو مختصر لعبارة “العدالة ضد رعاة الإرهاب”. واعتبر الكثيرون صدور هذا القانون ضربة لإدارة الرئيس أوباما والعلاقات الأميركية السعودية، فهل ستقدم الإدارة الأميركية الجديدة على الخروج من تعقيدات هذا القانون.

تطورات الملف النووي الإيراني التي وصلت إلى تسوية بين الغرب والولايات المتحدة الأميركية وبين الحكومة الإيرانية لم ترض الكثيرين في المنطقة وحتى في الغرب، ولا سيما أن إيران لم تفعل شيئا يذكر لتحديد نشاطها النووي.

في اليوم التالي لانتخابات الرئاسة الأميركية يتطلع أصدقاء الولايات المتحدة باهتمام خاص إلى هذا الملف، وينتظرون من الرئيس الجديد وهيئته التشريعية ومؤسساته، تغيير المسار ولا سيما أنّ الاقتصاد الإيراني -رغم رفع العقوبات عن النظام- لم يتحسن أداؤه ومازال الريال الإيراني يترنح، ومعدلات التضخم مازالت تراوح عند رقم 400 بالمئة، وهي عوامل ضغط داخلية بوسع الإدارة الجديدة توظيفها لتغيير النظام في إيران، أو على الأقل لإجباره على تغيير سياسته النووية والتوسعية في المنطقة.

تركيا هي الأخرى تغرد خارج السرب العربي والشرق أوسطي، ويبدو أنّ رئيس الجمهورية التركية الثاني عشر رجب طيب أردوغان مصمم أن يقضي على تركيا العلمانية وينتقل بها إلى مشروع الإسلام السياسي على طريقة حزب العدالة والتنمية، وهو بذلك سيخرج بتركيا عن تحالفات الناتو وعن مساعيها للدخول في الاتحاد الأوروبي، وكل هذا يضيف عبئا آخر على الإدارة الأميركية الجديدة، بعد أن بدأت تفقد قواعدها في تركيا، وتفقد واجهتها المحتملة الأولى أمام روسيا.

ملف السلام في الشرق الأوسط تراجع هو الآخر، فالرحلات المكوكية المتكررة لوزير الخارجية جون كيري وقبله هيلاري كلينتون إلى المنطقة دون خطة واضحة بقيت بلا نتائج. ولم تتقدم حظوظ السلام قيد أنملة واحدة، كما أنّ مشروع الدولتين بقي عالقا رهين خلافات مستحكمة بين الإدارة الفلسطينية وبين الإدارة الإسرائيلية. وزاد انشغال دول المنطقة بمشكلاتها الكبرى من هذا الجمود. ولن يستعيد ملف السلام في الشرق الأوسط أهميته، ما لم تفعّل الإدارة الأميركية دورها من جديد فيه.

 

 

صحيفة العرب