تتميز انتخابات الرئاسة الأميركية الحالية بأنها معركة بين مرشحة تقليدية، تنتمي للمؤسسة الحاكمة، وتقاليدها المعروفة، وستصبح حال انتخابها أول امرأة تصل إلى رئاسة الولايات المتحدة، ومرشحٍ غير تقليدي، ينتمي إلى عالم المال والأعمال، ويدخل المعركة ضد تقاليد المؤسسة وقادتها، بل ضد رغبة قيادة الحزب الجمهوري الذي يترشح باسمه. أنتج دخول المرشح غير التقليدي استنفاراً في المؤسسة الحاكمة، فقادت وسائل الإعلام، من صحف وقنوات تلفزيونية، ومراكز الأبحاث، والنخبة السياسية، ومجموعة كبيرة من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، حملةً شعواء ضد دونالد ترامب، أساسها بث الرعب من وصوله إلى البيت الأبيض، والتأثير الكارثي لهذا الوصول على أميركا، وكل التقدم الذي أحرزته في شتى المجالات.
يجتمع، هذه المرة، في أميركا، الليبراليون والمحافظون الجدد، على تأييد كلينتون، خوفاً من وصول ترامب. لدى المحافظين الجدد مخاوف من النزعة الانعزالية عند ترامب التي يمكن أن تؤثر على النسق الإمبريالي للولايات المتحدة، إذ إن ترامب من أنصار الاهتمام بالداخل، والابتعاد عن التدخلات خارج أميركا، وهذا يُقلق المحافظين الجدد، فيجدون أنفسهم أقرب إلى هيلاري كلينتون، وهي ليست مثل جورج بوش الابن، لكنها تبدي صرامةً أكثر من أوباما حيال التدخل، بالذات في المنطقة العربية. ويخشى الليبراليون ترامب، لكن خشيتهم تتركّز على تشويه ترامب صورةَ أميركا في العالم، بوصفها بلد الحرية والفرص للجميع، خصوصاً مع عدائيته الفجة تجاه المهاجرين والأجانب. ويجتمع كلا الطرفين في الخوف من ترامب، لأنه مرشح غير تقليدي، ولا يمكن التنبؤ بما قد يفعله حال وصوله إلى الرئاسة. لذلك، هي بالأساس معركة المؤسسة، بليبرالييها ومحافظيها، ضد المرشح المتمرّد على المؤسسة.
استغل خصوم ترامب إيجابيته تجاه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فانكبت حملة كلينتون، 
 ووسائل الإعلام والأجهزة المؤيدة لها، على تصوير ترامب أداةً بيد الروس، لتخريب الديمقراطية الأميركية، والحديث باستمرار عن تدخل روسي ضخم، وغير مسبوق، في الانتخابات الأميركية، كأن أميركا أحد بلدان العالم الثالث، وتستخدم هذه المسألة فزاعةً لاستنهاض الأميركيين في وجه ترامب، باسم الأمن القومي والحس الوطني.
تم التشنيع على خطاب ترامب العدائي تجاه المهاجرين، لكن من يشنعون عليه يرفضون هذه الفجاجة في التعبير عن العداء للمهاجرين، إذ يفرّق "ذكاء المؤسسة" بين أنواع المهاجرين، المفيدين وغير المفيدين، ثم إن مواجهة المهاجرين وترحيلهم تتم بهدوء، من دون صخب خطاب ترامب العنصري، كما فعلت كلينتون، حين وافقت على بناء جدارٍ مع المكسيك في الكونغرس، وكما يحدث في عهد أوباما من ترحيل أعدادٍ كبيرة من المهاجرين، تماماً مثل التدخلات الناعمة "بالدرونز"، والدعم الاستخباراتي واللوجستي لوكلاء محليين، والتي تؤدي الأغراض الإمبريالية، بكلفة أقل مادياً ومعنوياً.
تعود شعبية ترامب وصعوده المفاجئ للنخبة السياسية الأميركية إلى السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وما جرّته من مصائب على الطبقة العاملة الأميركية، الناقمة حالياً على المؤسسة وممثليها، والتي تؤيد ترامب لصدقه، بعيداً عن كذب النخبة السياسية وتلونها، وهي تنجرف مع فجاجة عنصريته وشعبويته، ولا ترى بأساً في تناقضاته، وعدم اتساق خطابه. يلعب ترامب على وتر الوظائف التي خسرتها هذه الطبقة، بفعل نقل المصانع الأميركية إلى الصين، بحثاً عن مراكمة الأرباح باستخدام الأيدي العاملة الآسيوية الرخيصة. لكن ترامب لا يوضح كيف يعاكس هذه السياسات، ولا يملك، في خطته الاقتصادية، ما يصنع تغييراً اقتصادياً. وتقوم خطته على خفض الضرائب على الشركات والدخل، ما يقود إلى انخفاض إيرادات الدولة، وتالياً إلى الانكماش، في وقتٍ لا تحتاج فيه أميركا لخطةٍ كهذه، بسبب عدم تعافيها تماماً من آثار الأزمة المالية عام 2008.
لكن الخوف من ترامب، عند بعض النخب العربية، المتأملة في المزيد من التدخلات الأميركية في منطقتنا، والعاملة على تقديم الدروس لأميركا لتفهم طبيعة مصالحها، وتشابكها مع مصالح هذه النخب، يتركز على انعزالية ترامب، فيما تبدو كلينتون أكثر حزماً من أوباما المخيّب 
 للآمال. وقد تصدم نتائج الرهان على "تدخلات" هيلاري، المراهنين، إذ لن تزيد على تدخلات أوباما المحسوبة، والرامية إلى تحقيق الأهداف الأميركية بأقل الكُلَف، وإن علا صوتها في الحملة الانتخابية، فلا تغيير نوعياً في طبيعة التدخل الأميركي في سورية، ولا تفكير في تحمل أعباء التدخل في أماكن أخرى. لكن بعض المراهنين العرب على كلينتون قد لا يأملون المزيد منها، بقدر خشيتهم من انعدام التدخل بفوز ترامب، غير أن انعزال الأخير ليس مؤكداً، ودونه عقبات، منها مراكز القوى داخل مؤسسات الحكم التي لن تسمح للرئيس بتغييراتٍ جذرية، تنهي التدخلات الأميركية بالكامل، وستسعى إلى الحفاظ على نهج التدخل الحالي. إضافة إلى ذلك، يضم فريق ترامب أشخاصاً يملكون النزعة التقليدية للتدخل السياسي والعسكري في دول العالم، ومنهم مرشحه لمنصب نائب الرئيس، مايك بينس، وأحد أهم مستشاريه للشؤون الخارجية، وليد فارس، المعروف بتحريضه من أجل الغزوات الأميركية في الوطن العربي.
حظوظ مرشحة المؤسسة أكبر بالفوز، وبث الرعب من ترامب فعالٌ حتى الآن، لكن المفاجآت واردة. بعيداً عن الحسابات الأميركية، لن يتغير الكثير بالنسبة للعرب، في مواجهة الصلف الأميركي، أما المراهنون على أميركا من العرب، فالأفضل لهم أن يناموا مطمئنين، لأن أميركا لن تقاتل لتحقيق أحلامهم.