بينما كان أستاذ اللغة العربية يشرح حصّة جديدة في قواعد اللغة، ضجر سامي (14 عاماً)، فقرّر التلهّي بشَعر زميلته نتالي الجالسة أمامه في الصف. سحب من شنطته مقصّاً صغيراً وقام بقصّ ما أمكَنه من خصلات شعرها الطويلة المتدلية على ظهرها. لم تدرك نتالي في بادىء الأمر أنّ كارثة حَلّت بها ولم تتنبّه إلى فِعلته. ولكن بعد أن دقّ جرس الفرصة صُدمت صديقتها الحميمة بشكل شعرها من الخلف، فتوجهت نتالي بسرعة إلى الحمام، لتُعاين المشكلة. لم تتمالك الفتاة أعصابها أمام خصلات شعرها المقصوصة، فالضرر كبير وهي ستضطرّ إلى قص شعرها قصيراً لتجعله متناسقاً بعد الذي حصل، فأخذت تبكي بشدة. هي تشعر بالضعف والغضب في آن. إلّا أنها "عاقِلة" ولا تتمتّع بشخصية قوية للمواجهة. يستغلّ الأولاد ضعفها ليطلقوا عليها يومياً وابلاً من السخرية والمضايقات. حتّى أنها تحوّلت إلى "كبش محرقة" في الصف. لأول مرة دفعها الغضب الذي انتابها لدى رؤية شعرها المشَوّه إلى إخبار الناظر. قرّر هذا الأخير التصرّف فدخل الصف خلال حصة الرياضيات واستدعى الصبي الفاعل، وقام بقَصّ بعض خصلات من شعره أمام جميع الأولاد، الذين أخذوا يضحكون.

هدف الناظر كان تَلقين الصبي درساً وجَعله عبرةً لباقي التلاميذ، لعله يكبح سخريتهم تجاه بعضهم البعض، وينصف الفتاة التي أتته باكية. ولكن ما ان أدار الناظر ظهره حتّى عادت نتالي تتعرض لملاحقات مُضاعفة وسخريات بالجملة، فهم أرادوا أن يهزأوا منها لأنها وَشَت بأحدهم.

المضايقات المدرسية


كانت نتالي فتاة سعيدة، تحبّ الناس والتعرّف إلى أصدقاء جدد، وتحلم بأن تصبح مشهورة حين تكبر. ولكن قد يكون خجلها وتهذيبها، نتيجة تربية أهلها الصارمة لها، حَوّلاها إلى شخص مُستضعف في المدرسة.

فهذا ولد يودّ أن يجلس مكانها خلال حصة اللغة الفرنسية ليكون بالقرب من صديقه المشاغب، فلا يتردد بحمل حقيبتها ورَميها في مكان آخر. تعود من الفرصة لترى أنّ شنطتها غير موجودة وعليها الجلوس في مكان ليس مكانها.

إعتاد الأولاد أن يسخروا منها ويهزأوا بها. هم يشجّعون بعضهم بعضاً، وعجزها عن التصرف أمام أفعالهم يزيدهم سوءاً. يطاردونها في الملعب، ويُطلقون النكات على اسمها وثيابها ومشيتها وكلامها. ووصلت السخرية بأحدهم حدّ الركوع أمامها في الصف للتعبير عن إعجابه وغرامه بها، بهدف إضحاك زملائه، الذين ينفجرون ضحكاً كلما استدارت أستاذة الرياضيات لتكتب على اللوح.

هي تشعر بالدونية، حتّى أنها باتت تكره نفسها والمدرسة. أمّا الخروج من هذا المستنقع فمستحيل. لا تقوى على إخبار أساتذتها عن الملاحقات التي تتعرض لها، ولكنها أخبرت والدتها، إلّا أنّ هذه الأخيرة لم تكترث، فبالنسبة لها كلّ ذلك «لعب أولاد».

حاولت نتالي التغلّب على واقعها وضعفها وعزلتها، من خلال الإصرار على والدتها كي تسجّلها في نشاطات ترفيهية خارج المدرسة، آملة أن تنخرط بمجتمع جديد وتتعرّف الى أصدقاء جدد وتمارس ما يخرجها من جَو المدرسة الضاغط والمُدمّر لنفسيتها، إلّا أنّ أهلها لم يحبّذوا ذلك فبنظرهم عليها أن لا تقوم بما يُشَتّتها عن الدرس. وسط هذه الأجواء أخذت علاماتها المدرسية تتراجع بشكل كبير.

باتت تكره المدرسة وتستيقظ كل صباح وهي تشعر بالتعاسة والاشمئزاز، فهي غير قادرة على التفكير بأنّ عليها أن ترتدي ثيابها لتذهب إلى حيث تتعرض يومياً للنكات الثقيلة والتهميش والاستضعاف، وحيث لا يساعدها أحد بل يتعاون الجميع على تدميرها.

وإذا لاحظَ أحد الأساتذة وضعها، فإنه لا يبادر الى مساعدتها بل ينظر إليها وكأنها فتاة غبية وبلا شخصية. معلمة اللغة الفرنسية مثلاً هَدّدتها بطردها من الصف لو وجدتها يوماً جالسة في غير مكانها، علماً أنّ المعلمة تدرك تماماً أنها لا تغيّر مكانها بل إنّ المشاغبين هم الذين يرمون بأمتعتها بعيداً ليتسنّى لهم الجلوس مكانها والاستمتاع مع أصدقائهم.

السخرية المدمّرة


ليست السخرية على بعض الأولاد في المدرسة حالة فردية تنحصر بأولاد معيّنين في مدرسة معيّنة، ولا هي "لعب أولاد" عَرضِي بل حال خطرة منتشرة تضرب نفسية الولد المستَضعَف وتهدد توازنه لسنوات. فهذا الواقع المؤلم جداً بالنسبة له، يهدده بأمراض نفسية، وعقد لا متناهية.

تنبّهت الحكومة الفرنسية لخطورة الأمر وأطلقت عام 2015 الخامس من تشرين الثاني يوماً وطنياً لمكافحة المضايقات في المدارس.

هدف هذا اليوم تشجيع الضحايا على رفع الصوت والتحرّر من كبتهم، وتوعية المجتمع على أهمية مساعدة هؤلاء الأولاد من قبل الجسم التعليمي في المدرسة والأهل، فلا يتركوهم لمصيرهم، خصوصاً أنّ الإحصاءات في فرنسا تؤكد تعرّض 700 ألف ولد ومراهق يومياً للعنف اللفظي والجسدي والمعنوي من قبل أقرانهم في مدارس البلاد. ولا يقف هذا العنف عند حدود أسوار المدرسة بل تلاحق المضايقات الضحايا عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

المساعدة


يؤكد الاختصاصي الفرنسي في علم النفس ميشال لارار أنّ "الأطفال يتكلمون عن المضايقات التي تعترضهم أكثر من المراهقين، ويشعر الأطفال بالإطمئنان عندما يقصد أهلهم المدرسة للتحري عمّا يحصل لهم". ويضيف: "المراهقون ينطوون، ويأسرون ذواتهم بالصمت لأنّ صورتهم أمام أنفسهم تهتزّ جرّاء المضايقات. فهم يسعون إلى كتمان ما يعانون منه مهما تألموا حتى لا تنطبق عليهم مقولة "إنهم ضعفاء".

ويوضح الاختصاصي النفسي: "عندما تتعلق المضايقات بالأمور الجنسية يصعب كثيراً على المراهق الكلام، وعلى محيطه حَضّه على التكلم وعدم الشعور بالذنب". ومهما بلغ عدم تَفهّم الأهل لوضع المراهق لا بدّ من التأكيد أنه إذا صَمّم على كسر جدار الصمت فسيجد حتماً من يسمعه ويساعده.

(الجمهورية)