عار علينا نحن اللبنانيين، عار علينا جميعنا مواطنين ومسؤولين وإعلاميين وفنانين وعتّالين وجزّارين... بقِينا مقصّرين ومستهترين بالعمالقة والجواهر الوحيدة التي يمكن أن نزيّن بها هويتَنا اللبنانية حتى خسرنا الموسيقار...

مات ملحم بركات وريّحنا من وجع ضميرنا، مات وريّحنا من مسؤولية تذكُّر العظماء الذين يجب تكريمهم قبل رحيلهم، مات وريّحنا من غصّة وضع نيشان على تابوت صامت أو قراءة تأبينات على آذان مبدعين أموات. مات ملحم بركات وأوصَد خلفه الباب إلى نادي العمالقة الذي صَنعوا مجد الفنّ اللبناني.

ونسأل أنفسَنا يا ملحم، لو كنتَ أنت واقفاً اليوم في مأتمك، كم كان سيكون كبيراً عدد الذين كنتَ سترفض مصافحتَهم أو تقبيلهم، وكم عدد الذين سيَسمعون منك عتاباً وقِحاً ولوماً جريئاً من لسانك الذي درّبتَه طوال حياتك على قول الحقيقة.

لو كنتَ أنت واقفاً اليوم في مأتمك، هل كانت ستَسلم من سبابك الصُحف والشاشات والإذاعات التي تاجرَت بصحّتك، وقتلتك بدم بارد ألف مرّة في اليوم. وماذا كنتَ ستقول للمسؤولين الذين لم يطرقوا باب غرفتك في المستشفى ولا وَقفوا على شبّاك العناية الفائقة ولم يكبّدوا حرّاسهم الشخصيين عناءَ حمايتهم في بكائك.

الفارق بيننا وبين ملحم بركات، أنه هو كان لبنانياً في حياته ونحن كنّا لبنانيين في مماته. هو كان لبنانياً أكثر مننا، كان الوحيد الذي قاطعَ كلَّ دول العالم، ورفضَ أموال الدنيا ليدافعَ عن مكانة الكلمة اللبنانية ولحنِها، كان من اللبنانيين القلائل الذين عاشوا بكرامتهم في بلد إهانة الكرامات...

أمّا نحن فمِثل عادتنا، اجتَهدنا في التقصير وتسابَقنا على النحيب والبكاء ونبشِ الصور وتسجيع كلمات أغانيه على مشاعرنا المزيّفة... نحن انتظرناه يموت حتى تذكّرنا أنّه عظيم وصوته جميل ويستحقّ التكريم.

رحلَ ملحم بركات وقاصَصنا في مسوخ الفنّانين الذين ترَكهم خلفه، هؤلاء الذين يمجّون الألحان المسروقة والأبيات المكسورة.

رحلَ ملحم بركات وجَلدنا بكلّ العجزة الأحياء الذين ترَكهم خلفه في السياسة ومراكز القرار، والذين أضنوا ضهر الدولة من الفساد.

وبَعدِين، متى شاخ وعجَّز ومرض ملحم بركات حتى باغَته الموت على غفلة؟ ومتى بلغ الحاديةَ والسبعين من عمره؟ ألم يكن بالأمس وكأنه في الخمسين في مهرجانات صور، شابٌّ معافىً يسدّد اللكمات إلى وجه المسؤولين ويَدبك على ألحان أغانيه؟ كنّا متأمّلين أنّه سيكمِل مشوار صناعة مجد الأغنية اللبنانية وتاريخها، فيما الآخرون مشغولون بصناعة أزمات الهوية اللبنانية.

كسرَ ملحم بركات ظهرَ عشّاق الفنّ برحيله، وترَك الأغنية اللبنانية يتيمةً على أوتار سيليكون ورا الميكروفون... فمن سيكمل المشوار مِن بعده، ومن هي الموهبة التي ستحمل راية الأغنية اللبنانية عاليةً فوق كلّ مغريات المال والشهرة؟

نحن أصبحنا رسمياً مصيّفين، ولم يعُد يهمّنا كثيراً من يبقى ومن يرحل بعد اليوم، ومن يتمّ تكريمه ومن لا. وباستثناء فيروز التي تكرّمت أكثر من مرّة، وخصوصاً بمحبة الناس، لن نشعر بغصّةٍ لعدم تكريمنا أيّاً من الصغار الذين يمتطون الفنّ حبّاً بالشهرة وخوفاً من البهدلة.

ماذا يهمّنا بعد اليوم، لقد مات ملحم بركات وريّحنا من أتفهِ واجباتنا كمواطنين... إفرحوا، لقد قصَّر برحيله المسافة كثيراً بين الدولة والمزرعة.

( الجمهورية)