في 3 أيار/مايو 2016، أصدر "مصرف لبنان" - المصرف المركزي اللبناني - تعميماً دعا فيه كافة المصارف إلى إغلاق حسابات تعود إلى أفراد ومؤسسات مرتبطة بـ «حزب الله». وقد صدر هذا التعميم في أعقاب تشريع جديد أصدرته الولايات المتحدة عُرف باسم "قانون مكافحة تمويل «حزب الله» دولياً" وتمّ توقيعه ليصبح قانوناً في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2015. ومنذ أيار/مايو المنصرم، جرى إغلاق مئات الحسابات، الأمر الذي سبّب حالة من الذعر في أوساط المؤسسات والكيانات الأخرى المرتبطة بالحزب.
وقد سخر الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله من العقوبات الأمريكية، مدعياً أنه لن يكون لها أي تأثير على الحزب لأنه يحصل على أمواله من طهران. ورغم أن هذا الواقع بات معروفاً جيداً، كان اعتراف نصر الله العلني بالتمويل الإيراني سابقة بالنسبة لمسؤول في «حزب الله». ففي 24 حزيران/يونيو، قال نصر اللّه: "طالما يوجد في إيران 'فلوس' فنحن لدينا 'فلوس'... والمال المقرر لنا يصلنا مثل الصواريخ التي تصلنا لنهدد بها إسرائيل... ولا يستطيع أي قانون في العالم أن يمنع وصول هذا المال إلينا". لكنه حذر أيضاً المسؤولين اللبنانيين من استهداف الشيعة الذين لا ينتمون إلى الحزب بالعقوبات. وقبل أسبوعين من تصريحات نصر الله، استهدف انفجار قنبلة المقر الرئيسي لـ" بنك لبنان والمهجر" في بيروت، ثاني أكبر مصرف في لبنان وإحدى المؤسسات المالية التي جمّدت حسابات مرتبطة بـ «حزب الله».
ولن تنفذ أموال «حزب الله» قريباً. ومع ذلك، فقد أدخل تعديلات هائلة على سياساته الإنفاقية منذ انخراطه في الحرب السورية في أواخر عام 2011. وتمثّل أثر هذه التغييرات في الميزانية بمزيج من زيادة التسليح وعزلة أكبر من أي وقت مضى. وخلال عدد من المقابلات التي أُجريت مع مقاتلين في صفوف «حزب الله» وأعضاء فيه وداعمين له، تجلّى شعور واحد بوضوح: قد يكون هؤلاء الأفراد منفتحين على النظر في فرص اقتصادية خارج نطاق الحزب.
المزيد من الأموال للعمليات العسكرية الإقليمية
من الناحية التاريخية، كان «حزب الله» يقسم نفقاته بين القطاعين العسكري والخدماتي، وبين مجتمعه الرئيسي في لبنان والمجتمع الشيعي الأوسع نطاقاً في المنطقة. أما اليوم فقد حوّل «حزب الله» نفسه إلى ميليشيا إقليمية - أو ذراع إيران العسكرية في المنطقة - وأصبحت معظم الأموال القادمة من الجمهورية الإسلامية تُخصّص لتمويل عملياته العسكرية في سوريا والعراق واليمن وأي مكان آخر تسعى فيه إيران إلى نشر قوات بالوكالة. ولا تزال معظم المؤسسات الخدماتية الخاصة بـ «حزب الله» قائمة، على غرار المراكز الصحية، لكنها لم تعد مموّلة بما يكفي لخدمة المجتمع ككل، وبالتالي تلبية احتياجات المقاتلين وأسرهم من خلال توفير الخدمات الأساسية مثل الرعاية الطبية والتعويضات.
وفي وقت سابق من هذا العام، أطلع أحد أعضاء البرلمان السابقين صحيفة "فاينانشال تايمز" على أن «حزب الله» كان يدفع أساساً رواتب 80 ألف فرد و400 ألف شخص عندما يكون أفراد الأسرة منخرطين في صفوفه، حيث يشكّل العدد الأكبر نحو عُشر الشعب اللبناني. وهذا يعني أن حوالى ربع اللبنانيين الشيعة يتلقون رواتب من «حزب الله». وفي وقت تُخصص فيه المزيد من الموارد لعمليات القتال خارج لبنان، برز انقسام بين المقاتلين وأفراد عائلاتهم - الذين ما زالوا يتلقون إعانات - وبين أعضاء «حزب الله» من غير المقاتلين والموالين له، الذين يُتوقّع منهم بوضوح التخلي عن كافة منافعهم إلى حين انتهاء الحرب.
وخلال سعيه لتغطية هذه النفقات غير العسكرية، كان «حزب الله» يأمل التعويل على موارد بديلة مثل التبرعات من لبنانيين شيعة أثرياء، وفقاً لبعض التقارير. ويُزعم أن مسؤولي الحزب كانوا قد طلبوا من هؤلاء السكان الميسوري الحال رعاية أطفال، بمن فيهم أولاد جرحى الحزب والحرص على توفير التعليم والملبس لهم.
وعلى الرغم من أن «حزب الله» لا يزال يستخدم عبارة "المقاومة" التي لطالما لجأ إليها داخل طائفته، مركزاً على القمع والاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الحزب أصبح أشبه بشركة عندما يتعلق الأمر بتجنيد المقاتلين وتحفيزهم من خلال دفع الرواتب وتقديم الخدمات لأسرهم. ويأتي معظم هؤلاء المقاتلين من أحياء فقيرة ولا يملكون مصادر دخل أخرى. لذلك عندما يَعرض عليهم الحزب عقداً لسنتين براتب شهري يتراوح بين 500 و1200 دولار مع منافع أخرى، يرى الشباب الفقراء الذين لا يملكون آمالاً كبيرة فرصة رائعة تترافق مع إمكانية التقدّم. وقبل الحرب السورية، اعتَبر أتباع «حزب الله» أن "المقاومة" هي دعوة أو مهمة. أما في أيامنا هذه، فإن المقاتلين في سوريا يصفون مهمتهم بأنها مجرد "العمل" أو "الوظيفة".
إنها ليست معركة مقدسة
لقد أدت الحرب إلى إنهاك الطائفة الشيعية في لبنان على العديد من المستويات، لكن العواقب كانت وخيمة بشكل خاص على سكان الجيوب الفقيرة في الأحياء التي يسيطر عليها «حزب الله». فالكثير من المقاتلين يعودون في أكياس الجثث في حين يعود غيرهم الكثيرين مصابين بعجز دائم. وأصبحت الطائفة ككل مسلحة إلى حدّ كبير، مع ميل نحو العنف والترهيب، مما أدى إلى حدوث ارتفاع خطير في معدلات الجريمة لا سيما في الأحياء الأكثر فقراً. وفي معقل «حزب الله» في الضاحية، على سبيل المثال، أظهر تقرير ارتفاع معدل الجريمة بأعلى نسبة له في العام الماضي مقارنةً بأي منطقة أخرى في لبنان - ويستمر هذا الرقم في الارتفاع.
كما [أصبح] الشيعة اللبنانيين معزولين للغاية، ومرفوضين من قبل جماعات أخرى في لبنان وفي مختلف أنحاء العالم العربي. ورغم ادعاءات الحزب، لا يدعم جميع الشيعة اللبنانيين «حزب الله»، لكن يُنظر إلى الطائفة على نطاق واسع كداعمة للحزب. ونتيجةً لذلك، يعاني الشيعة بشكل متزايد من أجل إيجاد فرص عمل في الخليج أو في المؤسسات المملوكة من قبل السنّة في لبنان. ولا يسمح الخطاب الطائفي لـ «حزب الله» الذي يأخذ طابعاً عدائياً على نحو متزايد بأي تنوّع داخل الطائفة الشيعية. فالخوف يشلّ الطائفة بأكملها: الخوف من الإسلاميين السنّة الذين يحيطون بها ويحاولون قتلهم جميعاً، كما يؤكد «حزب الله» باستمرار، والخوف من الحزب نفسه الذي يتصرّف بعنف أكبر داخل الأحياء الشيعية، بحجة وضع حدّ للجريمة والحفاظ على الأمن. ونظراً إلى الجدران المقامة لعزل الطائفة، يتنامى الشعور في أوساط اللبنانيين الشيعة بأن لا خيار أمامهم سوى الاعتماد على «حزب الله» ومصادره الخاصة.  
هل من سبيل للخروج؟
يريد جميع الذين أجرت معهم الكاتبة مقابلة سبيلاً للخروج: عبر الهجرة أو إيجاد وظيفة خارج الضاحية أو حتى الحصول على قرض لبدء عمل في مكان آخر. وفي هذا السياق، قال علي، الذي يعيش في منطقة فقيرة تُدعى برج البراجنة، إن "الأمر ليس أنني لا أحب طائفتي أو «حزب الله»، أنا لا أريد سوى أن يحظى أولادي بفرص أفضل من تلك التي تتوافر لي". وكان علي يحاول الحصول على قرض لفتح متجر لبيع الهواتف المحمولة في ضواحي الضاحية، لكن نظراً إلى افتقاره إلى وظيفة مستقرة، يرفض أي مصرف منحه قرضاً. وشرح قائلاً، "أنا لا أعمل ولا يمكنني العمل ما لم أصبح مقاتلاً في الحزب، فلماذا قد يرغب أي مصرف في مساعدتي؟".  
أما محمد - وهو أحد مقاتلي «حزب الله» في سوريا - فقد أخفى حتى مقابلته الرابعة مع الكاتبة واقع أنه شارك في الحرب لأنه بأمسّ الحاجة إلى المال. وبعد شهريْن، تبعه شقيقه لأنه أراد ادخار المال لشراء سيارة لكي يصبح سائق أجرة.  
أما حسن، وهو مقاتل آخر، فلم يرغب سوى في مغادرة لبنان، ويقول "سأذهب إلى أي مكان. ليس لدي شيء هنا. جلّ ما هو مطلوب مني هو التصفيق والتهليل خلال الخطابات والمهرجانات، ثم أعود إلى تراكم الديون. هذه ليست حياة لائقة".
إن الخوف المشار إليه في وقت سابق، وضرورة الانتماء، والخطاب الطائفي الذي يستهدف السنّة - العدو الجديد للطائفة - مقارنةً بالعدو الأبدي إسرائيل، هي العوامل التي تدفع العديد من هؤلاء الشباب. لكن تحت هذه الديناميكيات الظاهرة، يمكن للمرء الشعور بحسّ العجز وعدم الحيلة. ووفقاً لمعظم هؤلاء الشباب الشيعة، ثمة محفزان معينان قد يجذبانهم بعيداً عن العنف الطائفي واحتمال الموت في ساحة المعركة في سوريا ألا وهما: القروض والوظائف.   
وفي الواقع، تشهد عدد من الأحياء داخل الضاحية ازدهاراً مالياً، وتكشف نظرة قريبة انتشار المؤسسات الصغيرة مثل المقاهي ومتاجر بيع الهواتف المحمولة. وما لا يدعو للمفاجأة، أن المقاتلين لا يأتون من هذه الأحياء حيث بإمكان الشباب المنتمين إلى الطبقة الوسطى في أغلب الأحيان اقتراض 5 آلاف دولار لبدء عمل تجاري. وقال أحد المالكين "هذا كل ما يتطلبه الأمر. ما عليك سوى الحصول على هذا المبلغ ويمكنك الانطلاق". ومن بين أسباب نجاح هذه الأعمال هو أنه على الرغم من المشاكل، تضمّ الضاحية نوعاً من المنطقة الحرة حيث كل شيء أرخص ثمناً وغير خاضع للضريبة عملياً، وذلك نتيجة الحكم الذاتي الفعال لـ «حزب الله». وبالتالي، يقصد الكثير من اللبنانيين الضاحية لشراء بضائع رخيصة. ولكن يتعيّن على أولئك السكان الشيعة الذين لا يمكنهم الحصول على قرض، إيجاد وظيفة - وفي أكثر الأحيان عن طريق «حزب الله»، بل حتى كمقاتلين على نحو متزايد، وهو وضع لا يشكو منه الحزب.
وقد لا يدفع استحداث بدائل اقتصادية لهؤلاء الشباب الشيعة إلى مناهضة «حزب الله» ولكن قد يقدّم لهم خياراً وسبيلاً لوضع حدّ لاعتمادهم على مصادر الحزب، علماً بأن غياب أي تركيبة سحرية لإيقاف تسليح الطائفة الشيعية وعزلها أو قبول عزلتها عن باقي لبنان، سوف يصبّ في مصلحة «حزب الله» فقط.  
 ومن خلال المساعدة على تسهيل توفير فرص عمل للشباب الشيعة في لبنان، سيعمل المجتمع الدولي على تقويض قدرة «حزب الله» على تجنيد مقاتلين. ويدرك الحزب جيداً هذا الواقع، وبالتالي فإنه يبذل جهوداً حثيثة لتقويض جهود المساعدات الدولية - بما فيها تلك التي تقدمها الولايات المتحدة - الرامية إلى تحسين رفاهية الطائفة الشيعية. ويكمن التحدي الذي يواجه المجتمع الدولي في المثابرة على مدّ اليد للشيعة في لبنان مع الكشف في الوقت نفسه عن نفاق «حزب الله» - المتمثّل بزعمه الدفاع عن مصالح الشيعة في حين أنه يمنع دخول المساعدات.   
وكما أقرّ أحد مقاتلي «حزب الله» خلال إجازة من القتال في نهاية إحدى الأسابيع: "أوجدوا لي وظيفة في أي مكان، وسأعود من سوريا غداً".

 

حنين غدار