دشَن الايرانيون من خلال الثورة الخمينية مرحلة ثورية استثنائية في تاريخ حركات التحرر في العالم أُبَان القطبين الأميركي والسوفياتي لاعتمادها على الله لا على القطبين المذكورين وعلى كربلأ كبركة تمنح الحسينين نصراً وفوزاً في الدنيا والآخرة فخلقت موازين ثورية جديدة لم تكن سائدة ولم تكن موجودة . لاعتبار أن الثورات في العالم كانت ماركات عائدة اما للأميركي واما للسوفياتي ودونهما تراوح ثورات التحرر مكانها ولا تدخل حيَز التغيير أو الاصلاح في بنى السلطة.وبذلك دخل الايرانيون من أبواب قلوب الشعوب في العالمين العربي والاسلامي وأقاموا فيها وارتفعت صور السيَد الخميني على حوائط وجدران الثوريين على اختلاف مشاربهم ومدارسهم وفي صدور بيوت المسضعفين من الشعوب العربية والاسلامية .لقد مشى الشيوعيون وأترابهم من أبناء العلمنة واليسارية في مسيرات التأييد للثورة الايرانية ولرمزها الديني ايماناً منهم بالثورة العظيمة وبالحدث الذي هزَ الولايات المتحدة لفقدانها أحد أتباعها الأساسيين في منطقة أوكل حراستها مباشرة الى شرطيين هما :اسرائيل وايران الشاه .وأرسى حسابات سياسية معاكسة لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية وملبية لطموحات الشعوب المستضعفة في منطقة مطمورة بالذهب الأسود . بعد مُدَة من عمر الثورة بدأالتيار الخميني بتنظيف الثورة من الأطر الطارئة عليها من أمثال حزب تودة ومجاهدي خلق اضافة الى شخصيات رئيسية في مؤسسة الثورة عندها اتضح للقوى اليسارية المندفعة تجاه الثورة أن النتائج تعتمل لصالح تيار ثوروي أوحد متقيد بالمواقف الخمينية وقدتمَ ذلك بواسطة الاعدامات والاعتقالات وفتاوى قضاة الثورة الذين حلَلوا سفك دماء أعداء الثورة من أبنائها المنتمين الى تيارات وأحزاب لاتُدين بدين السيد الخميني .هذا الواقع العنفي لقوى الحفاظ على الثورة من حرس وقضاة دفع الى هزَ صورة الثورة 

في الخارج وجعل منها هاجس سياسي مفتوح على عدائية تطورت الى صراع مسلح بين المنتمين الى اسلام السيد الخميني والى الأفكار القومية والماركسية في خارج ايران .وبذلك صنفت الثورة نفسها كعقيدة دينية تسعى الى تحقيق الأمر الالهي باقامة الدولة الاسلامية فانفك عقد الارتباط القائم بينها وبين الناظرين الى الثورة كدور تاريخي معطَل للسياسة الأمريكية ومحقق لعدالة اجتماعية تستند الى معايير لادينية لأن الدين برأيهم وجه آخر للفكر الرأسمالي أو أحد أغطيته السميكة .وتوجهت الى العالم الاسلامي كاسلاموية ثورية مستنهضة للمسلمين من كبواتهم المُسنة ودفعهم الى التحرر من فساد أنظمة عميلة لواشنطن أو لموسكو واعتبار النموذج الايراني مدخل أساسي لتصحيح أوضاع المسلمين عبر الثورة الاسلامية ومنظومات قيمها التاريخية وبذلك دخلت ايران مرحلة تصدير الثورة الى الشعوب الاسلامية كدواء شافي من كلَ داء فلاقت موجات تأيدية من قبل الشعوب التي استمالات تياراتها الدعوة الايرانية والتحقت بها من مواقع مختلفة وكانت القضية الفلسطينية بمثابة احياء ايراني بعد أن ملَت الأنظمة العربية منها وبوابة واسعة لمصالح ايران الثورية في العالم العربي فتمَ تشكيل أطر موالية لمفاهيم الثورة ومساعدة ثوَار على ثوراتهم ومُدَ الفلسطينيون بدعم ايراني مفتوح معنوياً ومادياً وتحوَل الايرانيون الى فلسطينيين من خلال اصطفافهم خلف الثورة الفلسطينية وتغذت الأحزاب الاسلامية بشكل رئيسي من شريان الثورة الايرانية ونمت مشاريع الوحدة الاسلامية تحت سقوف سياسية واحدة ومبادىء وأهداف واحدة ومن صلبها فلسطين وتحرير بيت المقدس واسقاط الأنظمة ومحاربة الشيطان الأكبر -أميركا- كان من أهداف الحرب على ايران الثورة آنذاك اسقاط مشاريع تصدير الثورة وخلق مناخات ممزقة للوحدة الاسلامية وموجدة للخلافات المذهبية لكن الثورة الاسلامية تصدَت لمحاولات الفتنة وكان السيد الخميني سدَاً منيعاً أمام الفتنة المذهبية وبقيت شعارات الثورة شعارات اسلامية ولم تعبر في مرحلة من المراحل ومهما كانت التحديات عن شيعية مواجهه للسنة أو عن اثارة مخاوف من سنية مستلة لسيوف ستحزَ رقاب الشيعة من جديد . بقيت الثورة ثورة في زمن السيد الخميني بكلَ ما تتضمن من معايير وموازين وما تعتمل من أهداف متجذرة بقيم عقائدية ثابتة لا تتغير وفق أهواء أو مصالح سياسية .ومع رحيل المؤسس للثورة تحول مشروع الدولة الى محاصصة سياسية في الداخل والى تمدد أمني في الخارج وبذلك دخل الايرانيون مداخل جديدة في فضائين مفتوحين على مصالح سلطوية من شأنها أن تكرس حسابات سياسية مختلفة عن الطموحات الثورية وملبية لمشروعية الدولة الباحثة عن دور أقليمي يعيد ترتيب موازين القوى وفق هندسة سياسية مختلفة تنشط من الدور الايراني في خارطة محاطة بهواجس متعددة الوجوه . وبعد الدولة القوية والقادرة على احداث تصدَعات أمنية في العالم نما وبشكل سريع دور الدولة النووية الأمر الذي أقلق دول الخليج لأن فائض القوة الايرانية سيكون له سلطة مباشرة على المنطقة وبالتالي سيكون التدخل الايراني بالشؤون الخليجية أقرب وأوسع وأنجع لذا آثارت حفائظهم مخاوف كثيرة من الاقتراب الايراني من النووي لاتصاله بأمنهم المباشر وبمصالحهم في منطقة منزوعة الرؤية من غلبة مُفضية الى ترتيب للسلطاويات الخليجية ومركونة أمنية لصالح الولايات المتحدة المتفاهمة معهم على أدوار ومصالح متقاطعة في السياسة والاقتصاد والأمن . جاء انجاز التحرير في لبنان والصمود في غزَة دفعاً جديداً للدولة الايرانية وباتت الدور الطليعي في منطقة الشرق الأوسط والقوة الثانية فيها بعد العدو الاسرائيلي وبذلك تقوًت شوكتها في الداخل الايراني وتمَ سحق المعارضة الايرانية تحت ضغط وعبء النجاحات الخارجية للسياسة الايرانية وخاصة في مجال المقاومة ومآل ذلك الى فوز كبير على الفريق العربي المتتبع لفرص السلام مع اسرائيل وبذلك باتت ايران الدولة المؤثرة في الرقعتين العربية والاسلامية وخاصة في لبنان والعراق وفلسطين وأفغانستان اضافة الى دول أخرى كثيرة وقد ساهمت مجموعة تحولات في تقوية الدور الايراني وخاصة النصراللبناني و الصمود الفلسطيني واحتلال العراق وانسحاب القوات الأمريكية منه . مالم يكن في الحسبان حصل في ليلة لم تكن متوقعة عندما بدأ الربيع العربي من تونس واستفاق العرب من مخاوفهم وتحقق ماأضمرته الثورة الايرانية وحثَت العرب عليه وكان ثمة مشترك بين الثورة الايرانية والثورات العربية أساسه النهوض ضدَ السلطة والمطالبة بالحقوق والعدالة الاجتماعية ولم تكن موجهة ضدَ العدو الاسرائيلي والاستتكبار العالمي . الاَ أنَ ما اجترحته الثورات العربية من شعارات متصلة بأوجاع الشعوب لم تكن مساوقة لسياسات المقاومة ضدَ العدو لذا شعر الايرانيون بأن رياح الثورات ذاهبة باتجاهات مبتعدة عن أهدافهم السياسية وملبية لمصالح لا تنسجم مع سياق العداء لاسرائيل وأميركا وهي طامعة وطامحة بنظام سياسي مفتوح على المشاركة وتحسين مستويات العيش في بلاد أكلها الفقر . لقد أسهمت نتائج الربيع العربي في وصول الاسلاميين الى الحكم وخاصة تيار الاخوان المسلمين فذعرت ايران من تيار دعمت الكثير من تشكيلاته قبل الثورات . لاعتبارات متصلة بسياسات المنطقة الأوسطية وما ينتظر الاخوان من حسابات ومواقف مختلفة تماماً مع الحسابات الايرانية وكان أوَل الغيث الهدنة التي رعاها المصريون بين حماس الاخوانية واسرائيل والتزام مصر بأمن الخليج كما صرح الاخوان والأزهر عندما دعوا نجاد الى عدم التدخل بالشؤون الخليجية وخاصة في الموضوع البحراني اضافة الى الخلاف الجذري في الموضوع السوري .لقد حضنت دول الخليج الثورات العربية ومدَوها بدعم مالي وسياسي واعلامي وبذلك ضمنوا دورهم في الخارطة السلطوية الجديدة كدور الطليعي ومتقدَم ومنافس لايران بعد أن كانت لاعبة فاعلة في منطقة الشرق الأوسط في ظلَ وهن عربي غير قادر على ملاحقة الدور الايراني الصاعد في كثير من العناوين والقضايا وخاصة القضية الفلسطينية وما يتصل بها من ملفَات . لم يستفيد الايرانيون من الثورات العربية وتعاملوا معها كتحولات مضادَة لمصالحهم وانكمشوا تحت ضرورة الحفاظ على الأنظمة للمساهمة في ابقاء الوضع الأوسطي على ماهو عليه ودون تغيير في توازناته . فخسروا في الدولة ماربحوه في الثورة وجُعل تأييدهم للنظام السوري المسيس بطريقة مذهبية حادَة خسارة لأرصدة شعبية كبيرة وجعلتهم أندادً لتيارات مقاومة أمثال حركة حماس وحركة النهضة التونسية وبالتالي تحول خطاب الوحدة الاسلامية مع الثورة الى بيان مذهبي حاد مع الدولة وقد عبَر الحضور الخجول للمذاهب والتيَارات السنية في مؤتمر الوحدة الاسلامية المنعقد منذ فترة في طهران خير تعبير عن عمق التصدع المذهبي في وحدة المسلمين .ومع الربيع العربي بدأت ايران بسياسات مخالفة لنتائج ثوراته اذ ذهبت الى التعامل مع القوى المرصوفة خارج النخبة السلطاوية الجديدة من اليمن الى تونس رغم محاولة الرئيس الايراني الاستفادة من فرصة انعقاد قمة المؤتمر الاسلامي في القاهرة بالتواصل مع المصريين للعب دورين مزدوجين الاَ أنَ المرحلة الحسَاسة لم تُساعد الدبلوماسية الايرانية على ممارسة الازدواجية في المعايير والمواقف وثمة انكشاف في عراء الربيع العربي فامَا الى جانب الثورات أينما حلَت وامَا الى جانب الأنظمة المُستنسخة على ماكنة تصويرية واحدة . الثورة كانت تصديراً لأدبيات من طبيعة الشعوب الاسلامية في حين كانت مصالح الدولة باعثة على التدخلَ في الشؤون الداخلية ونقل السلاح كمؤن للجياع في دول كانت مبررة قبل الربيع العربي ولكنها الآن بحاجة الى نقاش قدَ يعيد الثورة الى الدولة حتى تكون مرآة الربيع العربي لأنها سابقة الثورات وفاتحة الجهاد الداخلي تحرراً من الظلم وتحريراً للارادة الوطنية من كلَ استلاب . في ذكرى الثورة الايرانية حاولنا المقاربة معها من باب النقض لا المدح الذي لا تحتاجه كي نثير أجواء نقاشية هادفة في لحظة حسَاسة من تاريخنا الاسلامي