يدفع النظام السوري وروسيا وإيران مقاتلي المعارضة السورية وعائلاتهم تباعاً إلى محافظة إدلب شمال غرب سورية إثر هدن و"مصالحات" يعقدها مع أهالي المناطق الخارجة على سيطرته لا سيما في العاصمة دمشق ومحيطها. واستقبلت إدلب خلال العامين الأخيرين عدداً كبيراً من مقاتلي المعارضة الآتين من مضايا والزبداني شمال غرب دمشق، ومن مدينة داريا جنوب غرب العاصمة، ومن بلدتي قدسيا والهامة شمال غربها، كذلك من حي الوعر الحمصي، كما تستعد محافظة إدلب لاستقبال مقاتلين مع عائلاتهم من مدينة معضمية الشام غرب دمشق الذين بدأ النظام، أمس الأربعاء، عملية تهجيرهم.
 
كذلك من المتوقع أن يتوجه إليها مقاتلون من مناطق سوريّة أخرى يجري التفاوض مع المعارضة فيها من أجل إبرام "مصالحات" مماثلة. ويسعى النظام من خلال هذا الأمر إلى تأمين العاصمة وريفها كي يتفرغ إلى مناطق أخرى. وحاول نظام بشار الأسد إخضاع مناطق خرجت عن سيطرته بالحديد والنار. وعندما فشلت مساعيه لجأ إلى جميع أنواع الأسلحة الفتاكة وفرض الحصار المحكم، ما أدى إلى مآس لم تعرفها البشرية في تاريخها المعاصر. وقضى أطفال ونساء ومسنون جوعاً، وبرداً، ما أجبر المعارضة، منذ منتصف عام 2014، على الموافقة على الخروج من أجل إنقاذ ما بقي من مدنيين في المناطق التي كان مقاتلوها يسيطرون عليها.
ويحاول نظام الأسد وروسيا وإيران تنفيذ أكبر عملية تهجير جماعي في سورية، في الأحياء التي تقع تحت سيطرة المعارضة في حلب والتي تضم أكثر من 300 ألف مدني إضافة إلى مقاتلي المعارضة. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، الثلاثاء، أنها فتحت ممرات "آمنة" لخروج المدنيين والمقاتلين إلى إدلب في محاولة لتجميع أغلب مقاتلي المعارضة في بقعة جغرافية ضيقة والقضاء عليهم دفعة واحدة بعد التفرغ لها، بحسب رأي أغلب المراقبين للمشهد السوري.
 
ورفض نظام الأسد توجه مقاتلي المعارضة إلى مناطق سورية أخرى، لا سيما إلى محافظة درعا جنوب البلاد، مشترطاً التوجه نحو إدلب حصراً للموافقة على خروجهم مع عائلاتهم بأسلحة خفيفة. ومحافظة إدلب التي يطلق عليها السوريون صفة "الخضراء" بسبب كثرة شجر الزيتون فيها، تعد من أصغر المحافظات السورية لجهة المساحة. وكانت من أولى المحافظات التي بدأت بلداتها ومدنها بالخروج على سيطرة النظام منتصف عام 2012، وصولاً إلى أواخر مارس/ آذار من العام الماضي. وسيطرت المعارضة على كامل المحافظة بما فيها مدينة إدلب مركز المحافظة، لتتحول إلى أهم معاقلها في شمال غرب سورية.
 
ولم تكن العلاقة بين أهالي إدلب ونظام الأسد على ما يرام منذ تولي حافظ الأسد الأب السلطة عام 1970. وقاموا بطرده منها وضربه بالأحذية في إحدى المناسبات. لذلك بقيت العلاقة بين المحافظة والنظام متوترة طوال هذا الوقت. وأصبحت من المحافظات "المنسية" والمهمشة من قبل حكومات النظام المتعاقبة. ويكشف العقيد الطيار المنشق عن جيش النظام، مصطفى بكور، في حديث مع "العربي الجديد" عن أن ضابطاً "كبيراً" من أتباع النظام قال في الأشهر الأولى من الثورة، إن قيادة النظام قررت تدمير محافظة إدلب في حال لم ترجع عن ثورتها. وأضاف "لا خلاف بين أركان النظام على تدمير إدلب فوق رؤوس أهلها، لهذا يتم دفع جميع الثوار، الذين لا يرضون بالعودة إلى حضن الأسد، إليها"، على حد وصفه. وأشار إلى أن نظام الأسد وحلفائه يصفون كل من هو موجود في إدلب بـ"الإرهاب"، معتبراً ذلك "مقدمة لإنشاء تحالف دولي للقضاء عليهم من خلال تدمير مدن وبلدات المحافظة وفي مقدمتها مدينة إدلب". واستطرد: "إن ذلك يتيح للنظام أن يفرغ حقده القديم على إدلب بمشاركة روسية وغطاء دولي بحجة استكمال القضاء على (تنظيم الدولة الإسلامية) داعش، والنصرة".
وتابع بكور إنه "في حال ظهور مواقف دولية أو مستجدات تعيق عملية التدمير المخططة لمحافظة إدلب، سيكون المخطط البديل هو حشر المعارضين السوريين كافة في هذه المحافظة الصغيرة". وأضاف أن هذا الأمر يعني "تحويلها إلى ساحة تصفية حسابات بين الفصائل بعد محاصرتها، ومن ثم يتم التدمير الذاتي للثورة من أبنائها".
 
وتدرك المعارضة السورية المسلحة جيداً المخطط الذي ينفذه نظام الأسد وحلفاؤه من وراء دفع مقاتليها إلى محافظة إدلب. وهي تجهد لإفشال مخططه من خلال توسيع مناطق سيطرتها في ريف حماة الشمالي، وفي مناطق بالساحل السوري. كما تحاول الصمود في مدن وبلدات ريف حمص الشمالي، خصوصاً في الرستن وتلبيسة. وتسعى المعارضة من وراء تقدمها الكبير في شمال حمص وشمال شرق حلب على حساب تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى فك الحصار عن أحياء حلب الشرقية. وتأمل بالعودة مجدداً إلى مدن وبلدات خسرتها في محيط حلب الشمالي لا سيما مدينة تل رفعت التي سيطرت عليها مليشيات "وحدات حماية الشعب" الكردية في منتصف فبراير/ شباط الماضي، تحت غطاء ناري من الطيران الروسي إبان الخلاف التركي الروسي.
 
ومن هذا المنطلق، ترفض المعارضة الخروج من مدينة حلب كما يريد النظام، وحليفاه روسيا وإيران. وتصر على البقاء في الأحياء التي تسيطر عليها على الرغم من الحملة الجوية المتوحشة منذ شهر، والتي لم تستثن شيئاً. إذ يشن الطيران الروسي ومقاتلات نظام الأسد حرب إبادة حقيقية لإجبار المعارضة على توقيع اتفاق استسلام تخرج بموجبه إلى محافظة إدلب.
وفي هذا الصدد، يؤكد المتحدث باسم "تجمع فاستقم كما أمرت"، عمار سقار، أن أمر الخروج من حلب "غير مطروح حتى للتفكير"، مشيراً إلى أن "عجز روسيا وإيران والنظام والمليشيات الطائفية هو وراء طرحهم موضوع الهدن، والمصالحات للخروج إلى إدلب". ونوه إلى أن "نظام الأسد يسعى لتنفيذ مخطط تهجير للسوريين وتجميعهم في محافظة إدلب وإطلاق صفة الإرهاب عليهم". وأكد في حديث مع "العربي الجديد" أن المعارضة ستفشل هذا المشروع من خلال الصمود في حلب، مشيراً إلى أن الحصار على حلب "لن يطول، وسيكسر الطوق".
 
ويرى الناطق باسم حركة "نور الدين الزنكي"، النقيب عبدالسلام عبدالرزاق، أن لنظام الأسد عدة أهداف من وراء إجبار مقاتلي المعارضة ومدنيين سوريين على التوجه إلى محافظة إدلب. وأضاف في حديث مع "العربي الجديد" أن هناك أهدافاً تكتيكية تتمثل "بتخفيف الضغط عن جيش النظام والمليشيات الطائفية التي تسانده من خلال حصر الجبهات". كما تحدث عما قاله إنه "أهداف استراتيجية للنظام تتمثل في التغيير الديموغرافي في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، وتوطين أتباع له، بعضهم أتى من إيران". وأعرب عن قناعته بأن النظام والروس والإيرانيين يسعون إلى تحويل محافظة إدلب إلى "قندهار ثانية"، لأنهم غير قادرين على السيطرة عليها، على حد وصفه. ولفت إلى أن "الروس يريدون ربما اتباع السياسة العسكرية المتوحشة التي اتبعوها في غروزني في تسعينيات القرن الماضي من أجل إخضاع إدلب بعد تجميع أغلب مقاتلي المعارضة فيها".
 
وتعرضت محافظة إدلب على مدى سنوات الثورة إلى أكثر حملات القصف الجوي الوحشية من قبل طيران الأسد، ومن ثم الطيران الروسي. وقتل وأصيب عشرات آلاف المدنيين في مشاهد دموية لا تزال تتكرر كل يوم تقريباً. وحفظ غير السوريين أسماء مدن وبلدات وقرى هذه المحافظة من كثرة المجازر التي تُرتكب بحق أهلها، ومنها: معرة النعمان، سراقب، سلقين، أريحا، سرمدا، دركوش، جسر الشغور، خان شيخون، سرمين، وسواها من المدن، والبلدات. وباتت هذه المحافظة التي يصفها أهلها بـ"المنكوبة" قبلة السوريين الهاربين من مناطق النظام، وتنظيم "داعش"، ومن مناطق سورية تتعرض لقصف جوي يومي. ويؤكد ناشطون أن سكان المحافظة تضاعف خلال العامين الأخيرين. وتكاد أن تتحول إلى "سورية مصغرة"، إذ بات يوجد فيها سوريون من كل المدن والبلدات السورية. كما تعد محافظة إدلب المحطة الأخيرة للسوريين الساعين إلى الخروج من بلادهم باتجاه تركيا.