مجدداً، رحم الله كمال الصليبي. في الأصل، مرت ذكراه السنوية الخامسة قبل أيام قليلة، ولا أحد يتذكره. لبنان فعلا «بيت بمنازل كثيرة». من يراقب هذه «المنازل» من بعيد، يجد تضارباً فاضحاً في تقديم المعطيات سواء أكانت دولية أم محلية.
في الظاهر، ثمة من يجزم بأن الواقعية السياسية تفيد بأن لبنان على موعد مع رئيس جديد للجمهورية في جلسة الحادي والثلاثين من تشرين الأول، أما إعلان الرئيس سعد الحريري عن خياره السياسي الجديد، فإنه «هو من يختار التوقيت».
في المضمر، لا أحد يقول كلمته ومن بعدها «نقطة على السطر». حتى الحريري نفسه، يترك هامشاً ضيقاً للتراجع، وفي المقابل، لا يلزم العماد ميشال عون نفسه بإيقاع واحد، ولذلك، ستكون تظاهرة السادس عشر من تشرين الأول، في منزلة بين اثنتين: لا تصعيد ولا تهدئة، في انتظار الكلمة الفصل.
ما يسري على الداخل يسري على الخارج. مصدر ديبلوماسي واسع الاطلاع يقول لـ «السفير» ليل أمس أن الرئيس الحريري «حصل على ضمانات دولية للمرة الأولى، وهذا هو الأساس في حركته الخارجية»، في إشارة واضحة إلى أن خياره بتبني العماد ميشال عون لن يكون مصيره كمصير ترشيح سليمان فرنجية.
في المقابل، تتبلغ مراجع لبنانية، ليل أمس، معلومات تشي عكس ذلك، ومفادها أن وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت، عبّر صراحة أمام الحريري عن عدم حماسة بلاده حاليا لأي من خياري عون وفرنجية، في أول إشارة فرنسية، إلى ضرورة البحث عن مرشح رئاسي ثالث!
بين هذا وذاك، أسئلة مستمرة عن حقيقة الموقف السعودي وإمكان تحييد لبنان عن الاشتباك الإقليمي فضلاً عن تجدد رهانات البعض لبنانياً على مجريات معركة حلب، وفي المقابل، رهان البعض الآخر على الخيار العسكري الأميركي!
برغم هذا وذاك، يتصرف سعد الحريري على طريقة أن لا عودة إلى الوراء. الرجل مستعد لتحمل الأكلاف مهما كانت كبيرة. في كتلته كما مع حلفائه وجمهوره.. والأهم في السعودية. العناوين السياسية برّاقة للغاية، لكن المضمون شخصي بامتياز، من دون التقليل من «الكلفة السياسية» لعودة زعيم «المستقبل» إلى السرايا، في ظل الاحتدام الإقليمي الذي لا يمكن إلا أن يكون هو وتياره جزءاً لا يتجزأ منه.. أقلّه في التعبير السياسي.
يهون على الحريري ترشيح «الجنرال»، طالما أن ذلك يؤدي إلى تعويمه سياسياً ومالياً. الأهم من ذلك، وفق منطق المتحمسين في «المستقبل»، وهم قلّة قليلة، افتداء الطائف بانعقاد النصاب الرئاسي لميشال عون. يكسب اتفاق الطائف، بحسب الحريري، عمراً إضافياً، في انتظار ما ستؤول إليه تطورات المنطقة، خصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.
لا أحد غير الحريري يملك تفسيراً لحقيقة موقف الرياض، ومن التقى فيها قبل تبنّيه خيار «الجنرال»، غير أن اللافت للانتباه هو ما نسبته الزميلة «الحياة»، أمس، إلى الحريري، بأن السعودية «ستدعمه في الموقف الذي يتخذه»، الأمر الذي فسّره أكثر من معني بالملف بأنه يشكل إشارة واضحة إلى حصول الحريري على ضوء أخضر سعودي قبل أن يسير بخيار «الجنرال».
لا يمنع ذلك الحريري من ممارسة رياضة المشي في جادة «الشانزليزيه» في باريس، برفقة ابن عمته نادر، وأن يلتقيا هناك «بالصدفة»، المعاون السياسي للرئيس نبيه بري الوزير علي حسن خليل. ولا يمنع ذلك الحريري من توجيه اللوم إلى فريق سياسي لبناني، له امتداده الوازن في كتلته النيابية أولاً (بدليل بيان أمس الأول) وفي كتل نيابية أخرى معارضة لـ «الجنرال»، بأن الذهاب إلى السعودية والتحريض عليه «لن يقدم أو يؤخّر في خياراتي».
وبرغم الحرد الحريري من «محاولات قوى سياسية لبنانية تخريب علاقته بالرياض»، قرر النائب جنبلاط وضع النقاط على الحروف: تصريح بالناقص أو بالزائد لجبران باسيل وتشكيلات بالزائد أو بالناقص. تفسيرات بالناقص أو بالزائد.. كلها تفاصيل لا تغير في الأساس، «لا بد من تسوية تاريخية تؤدي إلى انتخاب رئيس جمهورية. التسوية مطلوبة حتى لو أتت بالعماد عون الى قصر بعبدا، تبقى أقل ضرراً وكلفة من عدم التسوية خصوصاً في ضوء المؤشرات الاقتصادية والمالية المقلقة والتي تنذر بمخاطر أكثر قلقاً، لذلك، لا بد من رئيس لإعادة إحياء المؤسسات الدستورية وإعطاء إشارة للعالم بأننا ما زلنا موجودين على الخريطة. نحن نختلف على جنس الملائكة، بينما أصبحنا جزيرة معزولة محاصرة بالنيران ولا نستطيع تصريف موسم تفاح».
هذا الموقف الجنبلاطي «وبرغم أنه أزعج بعض الأصدقاء والحلفاء»، لا عودة عنه، يردد جنبلاط، مجدداً الدعوة إلى اللبنانيين من أجل التواضع السياسي «لأننا لسنا على جدول أحد من الدول حالياً».
في عين التينة، وباستثناء التواصل مع علي حسن خليل، الذي سافر في الأصل من أجل إلقاء محاضرة في العاصمة الفرنسية، كانت الخطوط مفتوحة في أكثر من اتجاه. الانطباع أن لا جديد رئاسياً. في الوقت نفسه، لا شيء يضمن أن تؤدي جلسة الحادي والثلاثين من تشرين الى انتخاب رئيس للجمهورية. تعبير «السلة» الذي استفز البعض، يمكن إحالته إلى اللغة العربية، وهي كفيلة بأن تجد مكانه عشرات التعبيرات. لا بد من تفاهم سياسي، وهذه النقطة كانت أكثر من واضحة في خطابي الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله.
كل من تسنى له التواصل مع الحريري عبر الهاتف، في الساعات الأخيرة، خرج بانطباع واحد: الرجل جاد في مبادرته وهو سيعلن تبنّي ترشيح عون رسمياً فور عودته إلى بيروت.
في الرابية، حالة انتظار لا بل احتساب للساعات والدقائق. المكتوب يُقرأ من مقدمة الـ «أو. تي. في» ليل أمس: «أولى المحطات، بعد غد (الأحد)، مع كلمة العماد عون على مدخل قصر بعبدا. محطة بدت التعبئة الشعبية والإعلامية لها، شبه مكتملة، وهي تنبئ بلحظة جماهيرية كبرى، مع موقف وطني ميثاقي جامع. بعدها، تأتي خطوة الرئيس سعد الحريري... وفي المعلومات السرية جداً، أن التحضيرات بدأت لتنفيذها أيضاً، لجهة المكان والزمان والإطار والشكل والمضمون والتفاصيل كافة، وبين المحطتين، بدت كل العناوين منسجمة مع أجواء المخاض الوطني».
قبل أن يعلن الحريري موقفه رسمياً، لن يتزحزح «الجنرال» من مكانه. من بعد الإعلان، ثمة روزنامة مواعيد. الآمال العونية بـ «التتويج» في الحادي والثلاثين عالية جداً، ولو أن ثمة من يجزم بالقول مجدداً: عين التينة هي الممر الإلزامي.