لاحِظوا أن جميع التيارات والتكتلات تريد التبرّؤ من مسؤولية تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية. واستباقاً لأي مفاجأة تحلحل عقدة الرئاسة جيء بتعقيد آخر: أيّهما أولاً، الرئاسة أم قانون الانتخاب؟ كلاهما مستعصٍ.
كان "حزب الله" ولا يزال أول المعطّلين، إذ عيّن ميشال عون رئيساً ووضع الآخرين بين تزكية هذا التعيين، أو لا انتخاب. لم يُزكَّ ولم يُنتخَب سواه. هذه النتيجة هي ما توخّاه "الحزب" أساساً، وهو ما ظهر في كلّ مراحل الأزمة واتّضح أخيراً، ليس لخصوم عون و"الحزب" بل تحديداً لـ "التيار العوني" نفسه.
بعد حملة مركّزة قادها "الحزب" والعونيون للقول بأن الرئيس العتيد جاهز لكن "تيار المستقبل" يعرقل وصوله، وذهب خلالها جبران باسيل بعيداً في تصوير المشكلة وكأنها بين السنّة والمسيحيين ("اذا رفضتم رئيسنا نرفض رئيسكم"!)، ارتأى سعد الحريري مصارحة سليمان فرنجية بإمكان سحب تأييده له، للأسباب الموضوعية نفسها التي جعلت الحريري يبدي لعون استعداداً مبدئياً لانتخابه، اذا كان حلفاء "الجنرال" يؤيدون فعلاً. أما الأسباب فمعروفة: ليست اقتناعاً بعون ونهجه ولا لهاثاً وراء رئاسة الحكومة بل حرصاً على بقاء الدولة، فإذا انهارت لا رئيس ولا حكومة.
هذا الخطر قائم، و"حزب الله" لا يتوقعه فحسب بل يتهيّأ لادارته واستثماره. اذ مضى 28 شهراً من دون رئيس كلمح البصر، ومُلئ الفراغ بمشاحنات سياسية حول الارتباطات الاقليمية لهذا الفريق وذاك، ومشاجرات على "الميثاقية" والنازحين والأجور والنفايات، بل تخلّلها حوار سنّي - شيعي "لتخفيف الاحتقان" سنّياً، فيما واصل الأمين العام لـ "حزب الله" الشحن والحقن والتسميم بلا أي ضوابط... وقد تمضي الشهور الـ6 الباقية من عمر "الجمهورية" بأسرع من لمح البصر للوصول الى الوضع الذي يعتبره "حزب الله" فرصة تاريخية لن تتكرّر: لا رئاسة ولا برلمان ولا حكومة ولا شرعية إلا لسلاحه غير الشرعي. ولذلك فهو تحوّط لأي مفاجأة بتنسيق الأدوار بينه وبين حركة "أمل" لتبقى طريق الرئاسة غير سالكة، فـ "الحزب" يلعب عون ضد الجميع و"أمل" تلعب فرنجية ضد عون.
لا بدّ أن القلق من الفوضى السياسية (والعسكرية)، ومن حتمية "المؤتمر التأسيسي" عندئذ، فرض ويفرض على "تيار المستقبل" وسواه الذهاب الى "ترئيس" الخصم السياسي بدل المجازفة بانهيار النظام. ففي الأزمتين (1989 و2008) اللتين قادتا الى "اتفاق الطائف" ثم الى "اتفاق الدوحة" كانت الدولة والرئاسة والمؤسسات مهدّدة وعلى شفير الهاوية، مع فارق أن "تسوية الطائف" جاءت على خلفية حرب أهلية وتمّت بفضل استمرار مجلس النواب مفتوحاً، أما "تسوية الدوحة" فلم تكن ممكنة لولا صمود الحكومة المتجانسة رغم اقفال مجلس النواب وغزوة بيروت. وما دام "حزب الله" و"أمل" لم يلتقطا التغيير الحاصل في موقف "المستقبل" ليوحّدا موقفهما لمصلحة عون، فهذا يعني أنهما ينتظران الظرف المناسب لفرض "تسوية طهران"... من بيروت!