المأساة السورية مستمرة ولا مؤشرات على وقف الموت الذي يزدحم على أرض الشام منذ سنوات ولا يزال. مشروع الهدنة الذي رفضته روسيا في مجلس الأمن الدولي، كانت فرنسا تقدمت به في محاولة لوقف العمليات العسكرية في حلب، وتثبيت اتفاق هدنة بين المعارضة المسلحة في حلب الشرقية من جهة، وبين روسيا والجيش السوري والميليشيات الإيرانية والطائفية التابعة لها من جهة أخرى. ماذا يعني رفض الروس وحلفائهم الهدنة في حلب؟

روسيا ظهرت كطرف معزول دوليا في مجلس الأمن الدولي بسبب إصرارها على تجاوز كل المعايير الإنسانية التي تضمن الحدّ من استهداف المدنيين، في حين كان ممثل الأمم المتحدة في سوريا ستيفان دي ميستورا يطلب من جيش الفتح (جبهة النصرة سابقا) سحب مقاتليه من حلب الشرقية إلى خارج المدينة بعد توفير ممرات آمنة لألف عنصر وهو عدد مقاتليها بحسب قوله.

هذا العرض أرفق بكلام فيه الكثير من الاستفزاز والوقاحة، حين قال دي ميستورا إن عدم الانسحاب سيعرض 250 ألف مدني إلى مخاطر كبرى بسبب إصرار الطائرات الروسية على استمرارها في توجيه صواريخها إلى هذا الجزء الشرقي من مدينة حلب.

الإصرار الروسي على استمرار العمليات العسكرية ضد المعارضة المسلحة كشف عن استراتيجية تكمن في دعم نظام الأسد في إعادة سيطرته على كامل الأراضي السورية، من دون احترام القرارات الدولية التي تحدثت عن تسوية سياسية تتضمن مرحلة انتقالية للحكم الحالي في سوريا إلى حكم آخر يقوم على قاعدة مشاركة المعارضة في السلطة بصلاحيات كاملة. وذلك تمهيدا لإجراء انتخابات ديمقراطية لن يكون فيها الأسد بطبيعة الحال، لكن اليد الروسية مطلقة في سوريا: أكثر من 34 ألف ضحية سورية سقطت خلال عام من العمليات العسكرية الروسية، وملايين إضافية جرى تهجيرها بالقوة النارية أو بقوة الحصار التي تنشط إيران وأداتها حزب الله في تنفيذها على امتداد مناطق سوريا المفيدة، ولا سيما محيط دمشق والمناطق المحاذية للبنان على طول حدوده الشرقية.

قوة روسيا في سوريا تتأتى من غياب أي محاسبة داخلية روسية للجرائم التي يرتكبها الروس في سوريا، ومن انكفاء مستمر للدور الأميركي الـذي كان له دور فاعل في إطلاق اليد الروسية هناك. وتأتي قوتها بسبب التقارب الأميركي – الإيراني، الذي يمكن القول إنه العصر الذهبي للعلاقة منذ الثورة، لا سيما غداة توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الخمس زائدا واحدا.

وترجم هذا الاتفاق بالمزيد من التعاون الإقليمي بين الطرفين سواء في العراق بمواجهة تنظيم داعش والتدخل التركي والعربي، أو في سوريا من خلال التغطية الأميركية للتدخل الإيراني عبر الميليشيات الشيعية، ولا سيما حزب الله.

وزير الخارجية الأميركية كان صريحا خلال لقائه ممثلي المعارضة السورية في نيويورك قبل عشرة أيام، بقوله إن حزب الله المصنف على لائحة الإرهاب الأميركية لا يعادي بلاده في سوريا ولا يستهدف مصالحها، لذا لا تستهدفه. علما أن حزب الله الذي يشارك في تنظيم الحشد الشعبي العراقي تدريبا وتنظيما، وتحت إشراف الجنرال في الحرس الثوري قاسم سليماني، يقوم عمليا بتنسيق الجهود مع القوات الأميركية بطريقة غير مباشرة وعبر القنوات العراقية الرسمية في وزارة الدفاع. كل هذا التناغم الإيراني مع النفوذ الأميركي والتنسيق المشترك في سياق مواجهة الإرهاب، وفر إلى حد بعيد نوعا من الحصانة الأميركية للتمدد الإيراني، الذي نجح في الاتفاق على وضع قواعد تعاون في اليمن من خلال الحوثيين. وهم أظهروا المزيد من الانسجام مع الموقف الأميركي، مقابل وضع واشنطن خطوطا حمراء تمنع التحالف الإسلامي الذي تقوده السعودية من تحرير صنعاء، فضلا عن التزام واشنطن بمنع هزيمة الحوثيين وضمان نفوذ إيران بحيث لا تخرج من معركة اليمن بلا مكاسب ولو بالحدّ الأدنى.

روسيا التي تدرك مساحة التلاقي والتعارض بين واشنطن وطهران في المنطقة وتحديدا في سوريا، دخلت المسرح السوري استجابة لحاجة إيرانية تريد من خلالها منع انهيار نظام الأسد، بل شخص الأسد الذي يشكل الحليف الوحيد لإيران على امتداد الأراضي السورية. وهناك استجابة لواشنطن التي أكدت مجريات الأحداث أنها ليست في وارد السماح بسقوط نظام الأسد لأسباب إسرائيلية بالدرجة الأولى، ولعدم تكرار تجربة العراق بالنسبة إليها ثانيا.

كما أن الأزمة السورية وفرت مساحة تصفية حسابات لعدد من الدول التي وجدت واشنطن أن غرقها في المستنقع السوري سيجعلها أكثر طواعية في ملفات إقليمية ودولية وعلى صعد أخرى. روسيا التقطت الحاجة الأميركية والإيرانية، من دون أن ننسى أن لها مصالح تاريخية في سوريا.

وهي بذلك أيضا نجحت في بناء علاقة استراتيجية مع إسرائيل، وتحولت إلى طرف ضامن للعلاقة بين إيران وإسرائيل على قاعدة حماية حدود إسرائيل في مقابل عدم تدخلها في أي عملية دعم لإسقاط نظام الأسد أو التعرض للقوات الإيرانية ولحزب الله في قتالهما في سوريا.

روسيا مستمرة في رفض الهدنة، وتعد بالمزيد من الدمار والموت لمعارضي الأسد في حلب. هو سلوك همجي. وإن كان يتسم به الدور العسكري الروسي بشكل عام، إلا أنه ينطوي على قلق روسي من خسارة ما يعتقد أنه كسبه خلال عام في سوريا. لذا يستعجل اتفاقا مع واشنطن، ليس أقل من إطلاق يده بالكامل في سوريا. وهذا ما بدا أن واشنطن غير مستعدة له حتى الآن.

ظهر ذلك من خلال سقوط اتفاق الهدنة في حلب الذي صاغه وزيرا خارجية البلدين مطلع الشهر الماضي، لكن البنتاغون كان له رأي آخر في الرسائل العسكرية التي وجهها إلى جيش الأسد في الرقة. بعد ذلك ذهب اتفاق الهدنة إلى خبر كان. لذا روسيا تذهب إلى النهاية في المواجهة أي النهاية التي تضمن لها إطلاق يدها في سوريا وبدعم واشنطن. أي اتفاق هدنة لا ينطوي على تسليم أميركي بالهدف الروسي، تعتبره القيادة الروسية مصدر خطر لها. ذلك أن عمليات تسليح المعارضة السورية تقررها واشنطن بعدما نجحت روسيا في تحييد تركيا إلى حدّ بعيد، وفي ظل التسليم العربي والخليجي تحديدا بألا تخرج سياسة دعم المعارضة عن تحكم واشنطن بشروطها وتوقيتها.

وسط غياب أي سياسة عربية واضحة المعالم في سوريا، ستبقى موسكو وطهران تدمران أي مظهر معارض لنظام الأسد، وفي اعتقادهما أن واشنطن ليست طرفا غير قابل بمباركة وجودهما، بينما أي سياسة عربية تنطلق من نظام المصالح القومي، ستواجه بالضرورة النفوذ الإيراني ولن تستطيع، بحكم نظام المصالح هذا، أن تعطي روسيا شرعية القتل والتدمير والنفوذ.

 

صحيفة العرب