يكاد حراك الرئيس سعد الحريري في مسألة إنهاء الشغور الرئاسي في لبنان يعبّر عن أبوة للنظام السياسي اللبناني بنسخته الاستقلالية، فيما تسعى القوى اللبنانية المتفرّقة إلى التسلل نحو نسخ أخرى يراد استحداثها تجاوزا لنظاميْ الميثاق عام 1943 والطائف عام 1989.

ويكاد الرجل يتوسّل وحيدا وصول رئيس، مسيحي، إلى قصر بعبدا، فيما لا يبدو أن الكثير من مشارب السياسة في البلد متلهفين لانتخاب رئيس يوقف المهزلة الدستورية التي تمنع انتخاب رئيس الجمهورية المسيحي الوحيد في هذا الشرق.

ويكاد المرشحان الجديان الباقيان على طريق بعبدا، سليمان فرنجية وميشال عون، يوكلان أمر إيصالهما إلى باب القصر لزعيم تيار المستقبل، وكأن الأمر ليس شأنا مسيحيا يرتبط بموقع المسيحيين في لبنان وفي هذا الشرق.

المسيحيون غير متفقين على مرشح واحد يفرضونه على المسلمين، ولكل من الفرقاء المسلمين مرشحهم المسيحي، فيما البطريركية المارونية منهمكة في الدفاع عن الموقف المسيحي الأول وفق غرائز الزائرين وأهواء الساسة الذين يتحرّون مظلة بكركي غطاء كنسيا لخيباتهم وعجزهم وعقم أدائهم.

باختصار يكاد همّ بعبدا أن يكون همّ الحريري وحده. لحزب الله مشروع وأجندة يتماهيان مع ذلك في طهران في طموحاتها من صنعاء نحو بيروت، مرورا بعواصم الخليج وبغداد ودمشق. يبدو لبنان بالنسبة إلى الحزب تفصيلا تافها على هامش الورش الكبرى في المنطقة والعالم، وبالتالي يبدو الصراع حول بعبدا جلبة صبيانية يتسلى بها أصحاب الشأن على نحو يلهي اللبنانيين عن ملاحقة خطايا الحزب في سوريا. وإذا ما طُلب من الحزب موقف يرفد حلفاءه (طالما أن المرشحيْن حليفاه)، فيأتي الرد صمتا ملتبسا من جهة، أو إظهار تمسك لفظي بترشح ميشال عون من جهة ثانية، أو التلطي وراء مواهب الرئيس نبيه بري في التسويق لسلّته من جهة ثالثة.


وحده سعد الحريري يطرق الأبواب، بابا بعد باب، مسوّقا لمبادرات موجعة بشّرت بالخصم سليمان فرنجية رئيسا، ليلحقها بمبادرة أخرى تسوّق لميشال عون رئيسا. وبين الأول والثاني مشترك التحالف مع محور الممانعة ببُعديه السوري والإيراني إقليميا، وبُعد التحالف مع حزب الله محليا. وفي سريالية الأمر أن “ابن السعودية” يجهد لاهثا لترتيب أمور “أبناء إيران” وتعبيد السبيل لهم على رأس النظام السياسي اللبناني برمته.

يريد سعد الحريري إفهام الطبقة السياسية اللبنانية أنه لم يفهم السعي الدؤوب الذي ما برح يجري من أجل تغيير النظام السياسي اللبناني وتغيير قواعد اللعبة فيه. يوحي الرجل لخصومه قبل حلفائه بأن أذنيه لا تسمعان الهمس الخبيث الذي تبثّه المواقف من أجل الإطاحة بـ“الطائف” والعبور نحو نظام سياسي يفرض محاصصة تتناسل من منطق فائض القوة عند حزب الله. فإذا صعُب تمرير “المؤتمر التأسيسي” العزيز على قلب السيّد حسن نصرالله، فإن للعبور نحو ما بعد الطائف سبلا أخرى.

يرفض تيار المستقبل وأنصار الطائف “سلة” الرئيس نبيه بري كشرط سابق على انتخاب أي رئيس للجمهورية. ينضم البطريرك الماروني بشارة الراعي منذ أيام إلى الفريق الرافض لمنطق “السلة”، ذلك أنها تتجاوز القواعد الدستورية وتفرض تكبيلا لرئيس الجمهورية المسيحي، لا سيما في مسائل لا صلاحية له بها، كما أنها تكبح النظام السياسي اللبناني ببدع طارئة تفرض الاستثناء بصفته نهجا دائما لإدارة البلد.

ألفباء الدستور اللبناني تفرض انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب. وإذا ما كانت عملية الانتخاب تتمّ تاريخيا وفق تفاهم إقليمي دولي يوحي باسم الرئيس، فإن قواعد العمل الداخلي تتم وفق أصول بيتية يوحي بها “الطائف”. يُجري الرئيس مشاورات نيابية هي أشبه بانتخابات، يقوم النواب من خلالها بتسمية مرشحهم لتشكيل الحكومة، وحين يأخذ الرئيس رغبة البرلمان في الاعتبار، يُصدر مراسيم التكليف ويترك لرئيس الحكومة المكلّف تشكيل الحكومة وفق الأحجام البرلمانية ومداولات الساعة وظروفها.

لرئيس مجلس النواب اللبناني منطقٌ يراد له أن يكون حكيما. تتأسس “سلة” بري على مسلمة أن عدم اتفاق اللبنانيين على رزمة من التفاهمات تتعلق باسم رئيس الوزراء وتشكيلة الحكومة المقبلة وقانون الانتخابات، سيحرم رئيس الجمهورية المنتخب من مفاعيل عملية الانتخاب التي طال انتظارها منذ مغادرة الرئيس ميشال سليمان لقصر بعبدا (مايو 2014). يوحي كلام الرجل أن للأمر سوابق كثيرة، وأن التعطيل بات أصل اللعبة وليس هامشها وأن التعامل مع “الأمر الواقع” بات يتطلب الالتفاف على الدستور وإلحاقه بقواعد أخرى تعوّض ثغرات “الطائف” وعوراته.

الدستور اللبناني يفرض انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب. وإذا ما كانت عملية الانتخاب تتم تاريخيا وفق تفاهم إقليمي دولي، فإن قواعد العمل الداخلي تتم وفق أصول بيتية يوحي بها "الطائف"
وللتعطيل، منذ اعتصام تحالف الممانعة في وسط بيروت ومواجهات 7 مايو 2008 وحكاية الانقلاب على حكومة سعد الحريري مرورا بالقمصان السود ومنازلات متقطعة أخرى، عنوان واحد ووحيد.

يقف حزب الله وراء أي تعطيل لأي قرار أو تشكيل أو مفترق لا يتحكم به. يسعى الحزب دون مواربة إلى فرض “الشيعية السياسية” التي يتحكّم بها على النظام السياسي اللبناني، فإذا ما كان “السلاح زينة الرجال” لفرض ذلك يوما، فإن السلال والتفاهمات الجانبية والخلفية واتفاقات الطوارئ (على ما نتج عن اتفاق الدوحة) هي ترياق المعالجات في أيام لاحقة حتى سقوط النظام السياسي برمته في حضن الحزب لبنانيا وحاضنه في طهران إقليميا. باختصار ينطلق بري من مسلّمة أن التعطيل لم يعد طارئا وعرضيا، بل بات تقليدا لبنانيا أصيلا في صلب النظام السياسي اللبناني.

قد يعتبر المنتقدون لمقاربات سعد الحريري أنها تمثّل استسلاما لخيارات حزب الله في بعبدا. فشل الحريري وتحالف 14 آذار في تسويق مرشح ينتمي إلى حلفهما السياسي، فراحا تاليا للقبول بحليف الحزب سليمان فرنجية، وحين لم يفتح الحزب الطريق لـ“بيك زغرتا” ذهب يلوّح بإمكانية القبول بمرشح الحزب الوحيد “جنرال الرابية” ميشال عون.

لكن تاه عن بال المنتقدين أن الحريري يريد رئيسا للبنان، فيما الحزب يريد لبنان برمته، وأن ذهاب اللبنانيين لانتخاب مرشح الحزب رئيسا، لا يتّسق مع أهداف الحزب في جعل المؤسسات اللبنانية داخل أجندته وتعمل تحت رعايته.

يُحسب لسعد الحريري، من حيث يدري أو لا يدري، أنه، من خلال حراكه الجديد في الأيام الماضية، عرّى المنظومة السياسية في لبنان وأخرجها من بطون الاجتهاد والتخمين. يسعى المرشح ميشال عون إلى ترميم جسوره مع الجميع من خلال رسائل الودّ التي أرسلها للجميع.

ومع ذلك باتت الرابية نفسها تطلق ما يفهم منه تبرّما من سلوك حزب الله ومنطق التحالف الذي يجمعهما منذ ورقة التفاهم الشهيرة. وبات مركز الثقل التاريخي للمسيحيين في لبنان في بكركي يضرب بيد من حديد ضد الرياح التي تبث سموم إجهاض “الطائف” وقواعده.

بدا أن لبنان الذي لا يستطيع انتخاب رئيس دون ضوء أخضر إقليمي دولي قادر على فرز مضادات محلية بيتية ضد آفات المسّ بخصوصية هذا البلد، بغضّ النظر عن مداولات الحريري في موسكو والرياض. عاد للمحلية دور أصيل في تحصين البلد من تداعيات اختلال القوى في المنطقة، وربما في أن ترشيح الحريري لفرنجية ثم لعون استهلاك حتى الثمالة من خيارات بات اللجوء لغيرها ضرورة واردة.

محمد القواص: العرب