أخذت الأزمة بين بغداد وأنقرة بعداً آخر، وذلك بعد حملة تصعيد وصفت بالخطيرة من جانب العراق إثر تهديدات أطلقتها زعامات مليشياوية وشخصيات دينية وسياسية معروفة بولائها لإيران، أبرزها هادي العامري ونوري المالكي، بضرب القوات التركية الموجودة في شمال العراق في حال لم تنسحب. ووفقاً لمسؤولين عراقيين، تحدثت معهم "العربي الجديد" عبر الهاتف من بغداد، فإن التصعيد بالموقف الرسمي العراقي جاء بسبب اعتراض إيران على دور تركيا في معركة الموصل المقرر انطلاقها خلال أيام. 
 
وعّبر أحد مستشاري رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في اتصال مع "العربي الجديد"، عن خشيته من أن "تؤدي الأزمة الجديدة الى تأجيل موعد الهجوم، بسبب اتخاذ الأميركيين والبريطانيين دور المتفرج وعدم دخولهم على خط الأزمة حتى الآن"، موضحاً أن "إعادة إثارة قضية التواجد التركي في العراق بشكل مفاجئ مرة أخرى يقف خلفها اللوبي الإيراني في البرلمان، وعلى رأسهم نوري المالكي". وعما إذا كانت الأمور ستصل إلى مستوى أبعد من خلال سحب السفراء، قال "هناك من يرغب بأبعد من ذلك، ورئيس الوزراء ضعيف جداً أمام الضغوط التي يتعرض لها من إيران وحلفائها بالعراق"، مؤكداً أن "سبب إثارة القضية مرة أخرى بهذا الشكل هو تسريب خطة الموصل التي جاءت على ذكر دور تركي في دعم بعض القطعات التابعة للبشمركة والعشائر العربية السنية، وفرض شرط عدم دخول المليشيات إلى مركز الموصل بعد طرد داعش منها، وهو ما اعتبرته إيران استهدافاً لها"، مؤكداً أن "إعلان العبادي مساء الثلاثاء أن مقاتلي العشائر هم عبارة عن متطوعين ولا ينتمون لهيئة الحشد الشعبي جزء من الإملاءات الإيرانية عليه".
وشهد نهار أمس الأربعاء استدعاء انقرة للسفير العراقي وتسليمه مذكرة احتجاج على اتهام البرلمان العراقي للقوات التركية بأنها قوات احتلال في العراق، لترد بغداد بعد ساعات بخطوة مماثلة، وتطالب السفير التركي برسالة مكتوبة بضرورة سحب قوات بلاده من الأراضي العراقية. ورد نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، على التصعيد العراقي بتصريحات مقتضبة، قال فيها إنه "لا يحق لأحد الاعتراض على الوجود العسكري لتركيا في العراق"، مبرراً ذلك بأن العراق "مقسم". وأكد أن وجود القوات التركية في العراق لا يعني أنها قوة احتلال، موضحاً "قواتنا في العراق لا تهدف لأن تكون قوة احتلال"، مضيفاً "ما دام العراق منقسماً، لا يحق لأحد الاعتراض على وجود قواتنا هناك".
 
ويقول العقيد كاميران علي، من قيادة اللواء الرابع بقوات البشمركة، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، إن "القوات التركية المتواجدة في بلدة بعشيقة التي تبعد 30 كيلومتراً شمال الموصل، ضمن قرية زليكان التي تضم خليطاً دينياً وقومياً متعدداً، ما زالت تنفذ مهام دعم وإسناد للبشمركة، ومنذ أكثر من عام". ويضيف أن "القوات التركية قدمت إسناداً نارياً كثيفاً لقوات البشمركة في عدة مواقف، وتمكنت من منع سقوط بلدات عدة بيد تنظيم داعش، وتتولى أيضاً عمليات تدريب وإسناد مختلفة للبشمركة أو الحشد العشائري بزعامة محافظ الموصل السابق، أثيل النجيفي".
 
ووفقا للمعلومات المتحصلة لـ"العربي الجديد" من مدينة أربيل فإن عدد القوات التركية، في أفضل حالاتها لا يتجاوز 300 جندي داخل معسكر زليكان، مجهزين بنحو 25 دبابة ومدافع ميدان وأسلحة متوسطة وخفيفة، ويشكلون خط دفاع بطول 12 كيلومتراً يمنع منذ عام مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) من التمدد إلى مناطق ناحية بردش وضواحيها، حيث يوجد أكثرية مسيحية عربية وأقلية من أبناء القومية التركمانية.
وقتل جندي تركي، وأصيب ثلاثة، خلال مواجهات سابقة مع تنظيم "داعش" مطلع العام الحالي، بينما تمكنت القوات التركية من تدمير مواقع عدة للتنظيم المتطرف، كان بعضها يحوي منصات صواريخ متحركة لقصف بلدات يسيطر عليها الأكراد. وبثت وكالة "أعماق"، التابعة للتنظيم في وقت سابق من هذا العام، مقاطع فيديو لما قالت إنه استهداف للقوات التركية بصواريخ موجهة قرب الموصل.
 
ويقول خالد الحمداني، أحد قياديي "الحشد العشائري" في الموصل لـ"العربي الجديد"، إنه ومنذ شهر يونيو/حزيران الماضي لم تقدم بغداد لنا أي سلاح، أو مرتبات لأفراد القوات البالغ عددها خمسة آلاف متطوع من العشائر وأبناء الموصل، وكانت تركيا تتكفل بذلك في سبيل مواجهتنا لـ"داعش"، مبيناً أن "بغداد تنظر للموضوع من جانب طائفي، وهو ما بدا واضحاً لجميع الدول العربية والعالمية أيضاً في هذا الموضوع بالذات وتحركها إيران". خلال ذلك، استغرب القيادي في التحالف الكردستاني حمة أمين من التصعيد ضد تركيا، وقال، في حديث مقتضب لـ"العربي الجديد"، إن "بغداد تسكت عن ايران منذ سنوات، ولديها آلاف المقاتلين بدون أن تكون هناك اتفاقية أو مذكرة كما تطالب بغداد أنقرة بها اليوم لتبرير الوجود التركي"، موضحاً أن "القضية أخذت منحى طائفيا، وهذا ديدن حكومات بغداد المتعاقبة في تعاملها مع دول المنطقة".
والأحد الماضي، صدرت أولى شرارات الأزمة عن المرجع الديني الشيعي ومؤسس مليشيا "أبو الفضل العباس" التي تقاتل لصالح نظام بشار الأسد، قاسم الطائي، الذي أصدر فتوى أعلن فيها ما سماه "فتوى قتال القوات التركية الغازية للعراق"، معتبراً أن "مقاومة التواجد التركي في العراق عسكرياً، واجب شرعي وأخلاقي واجتماعي"، مطالباً أيضاً بمقاطعة البضائع التركية والشركات التابعة لها في العراق. وأعقب الفتوى، تصريحات لمليشيات "الحشد الشعبي"، أبرزها "حزب الله" و"بدر" و"العصائب" و"النجباء"، قالت فيها إنها ستضرب القوات التركية، ليتم في اليوم ذاته إدراج موضوع التواجد التركي بالعراق رسمياً على جدول أعمال البرلمان العراقي.
 
ولعل أبرز المشاكل التي تعاني منها واشنطن في التعامل مع حكومة رئيس الوزراء، حيدر العبادي هي التردد وتقلب مواقفها بسبب الضغوط التي يتعرض لها، بحسب ما يؤكده النائب السابق في البرلمان العراقي، خالد الجبوري. ويقول، لـ"العربي الجديد"، إن "إيران تملك آلاف الجنود والقوات في العراق، ضمن معسكرات، بعضها في قلب بغداد وبدون غطاء من البرلمان أو اتفاق مع الحكومة، ورغم ذلك لا أحد يذكر تلك القوات بسوء، غير أن المنظار الطائفي هو الذي يحكم سياسة العراق"، موضحاً أن "السلطات التركية سبق أن أعلنت أن الوحدات الموجودة في العراق جاءت بالاتفاق مع سلطات إقليم كردستان بغرض الدعم والمساندة، وكانت بعلم رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، إلا أنه أنكر ذلك خوفاً من إيران والمليشيات".
وكانت أبرز التصريحات الإيرانية هي تلك التي صدرت عن نائب وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، واتهم فيها أنقرة بالعمل على تعريض أمن المنطقة للخطر. وقال "إن هذه الخطوة من جانب الحكومة التركية لن تساعد قط على إحراز النصر على الارهاب، بل وستؤدي الى الفوضى"، فيما قال رئيس البرلمان الإيراني، علي لاريجاني إن "الهدف الوحيد من التدخل العسكري التركي في العراق هو لتبرير النشاط الإرهابي في الموصل".
وحصلت "العربي الجديد" على مشروع قرار رفض التواجد التركي في العراق الذي صوّت البرلمان لصالحه الثلاثاء، وأبرز بنوده:
1-نرفض قرار البرلمان التركي بتوغل القوات التركية في الاراضي العراقية.
2- على الحكومة العراقية استدعاء السفير التركي في بغداد، وتسليمه مذكرة احتجاج برفض تواجد القوات التركية وكافة الاعتداءات على الأراضي العراقية.
3-على الحكومة العراقية اتخاذ كافة الإجراءات القانونية والدبلوماسية المطلوبة لحفظ سيادة العراق، وإعادة النظر في العلاقات التجارية والاقتصادية مع تركيا.
4-على الحكومة العراقية اتخاذ الخطوات السريعة بمطالبة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجامعة العربية اتخاذ الإجراءات لإخراج القوات التركية.
5-على الحكومة اعتبار القوات التركية داخل الأراضي العراقية قوات محتلة ومعادية، واتخاذ ما يلزم بالتعامل معها وإخراجها من الأراضي العراقية إذا لم تستجب للمطالب العراقية.
6-الطلب من الجهات القضائية المختصة تحريك الدعاوى القضائية لمحاسبة المطالبين بدخول القوات التركية إلى العراق وإطلاق التصريحات المساندة والمبررة لوجودهم.
ويعتبر التواجد التركي في العراق واحدا من الملفات الخلافية داخل الكتل السياسية العراقية، حيث يؤيد هذا التواجد كل من الأكراد والكتل السياسية السنية والمسيحية والمدنية المستقلة، بينما ترفضه كتل التحالف المعروفة بولائها لإيران. ويقول المختص بالشأن السياسي العراقي، إياد الدليمي، لـ"العربي الجديد"، إن "الأزمة الحالية متوقعة من بغداد بعد إقرار خارطة القوات التي ستشارك في معركة الموصل، حيث لم تحصل مليشيات الحشد على ما كانت تريده"، مضيفاً "إننا اليوم إزاء حالة من التبعية المعقدة لإيران، فبعد 13 عاماً من حكم الأحزاب الموالية لإيران نجد أن الحرس الثوري الإيراني ومخابرات إيران فعلياً هي من يدير العراق، لذا فإن حكومة بغداد لا ترى في وجود مقاتلي الحرس الثوري الإيراني ولا الدعم الإيراني للمليشيات المنفلتة ولا مقاتلي حزب العمال الكردستاني ولا حتى إملاءات إيران السياسية على بغداد، تدخلاً، بينما تهاجم تركيا لأنها أعربت عن نيتها الاشتراك بمعركة الموصل، وكلنا نعلم أن الموصل تمثل حالة استثنائية لأنقرة التي تنازلت عنها وفقا لاتفاقية العام 1926. للأسف الحديث عن حكومة إيرانية الهوى ببغداد لم يعد جديداً، الجديد الآن أن هناك حكومة عراقية إيرانية الهوى والهوية"، مبيناً أن "الشارع العراقي لا يجد حجج وتبريرات بغداد والأحزاب الموالية لإيران مقنعة، حيث فشلت في تقديم أي دليل على أن التدخل سلبي، أو أن أنقرة تدعم تنظيم داعش كما يردد المناهضون لهذا التدخل".