يعود جزء كبير من جمال البقاع الغربي إلى بحيرة القرعون التي تختم جغرافيته بالمسطح المائي الأكبر في لبنان. طبعاً هذا لا يغلب على طبيعة المنطقة المناخية التي سمحت بكل هذا الاخضرار اللامتناهي المدعوم بالينابيع المتدفقة، خصوصاً من الجبال الغربية، ومعه بعض البلدات التي ساهم اغتراب أهلها في بناء منازل جميلة مزيّنة بقرميد كسر روتين الطبيعة.
يأتي مشهد سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، عند الكتف الجنوبية، وكأنهما تحتضنان أواخر سهل البقاع وهو يودّع باتجاه الجنوب. هناك تشمخ في السلسلة الغربية جبال الكنيسة والباروك ونيحا كجدار، فيما تبدو السلسلة الشرقية أكثر حنواً فتميل كقمر يهلّ في أيامه الأولى لتلتف عند سد القرعون وكأنها تمد اليد للقاء يتيم لا يصل إلى خواتيمه مع شقيقتها الغربية بالقرب من فضاء قمر مشغرة.
كان مقدراً للبحيرة، التي بدأ مشروع إنشائها بعد عامين من قرار إنشاء المصلحة الوطنية لمياه الليطاني في العام 1954، أن تجعل من البقاع الغربي هبتها، وتحديداً قرى البحيرة من لالا إلى بعلول إلى القرعون (في السلسلة الشرقية) التفافاً إلى عيتنيت فصغبين فعين الجوزة وباب مارع في السلسلة الغربية.
يومها، وعندما استملكت الدولة معظم أراضي قرى البحيرة السبع بأسعار «أرخص من الفجل»، كما يثبت الناس الذين قبضوا ما بين 15 إلى 30 قرشاً بدل متر الأرض في السهل، بينما صار سعر كيلو الفجل بعد عام واحد خمسين قرشاً... يومها أمّلتهم الوعود الرسمية التي أغدقها عليهم المشروع: سنمنحكم مياهاً للري وكهرباء مجاناً، وستنعمون بتحويل منطقتكم إلى الأجمل سياحياً وتنموياً في لبنان.
وع «الوعد يا كمون»، بعد ستين عاماً على مشروع البحيرة، قالت نتائج تحاليل المجلس الوطني للبحوث العلمية أن «بحيرة القرعون ومعها الليطاني ماتا سريرياً، بسبب نسب التلوث القاتلة التي دمّرت الحياة المائية فيهما». إعلان، وبرغم إدراك الناس ومعهم المسؤولون في الدولة تلوث النهر وبحيرة القرعون منذ نحو ثلاثين عاماً، إلاّ أنه ترك أثره على مجمل الحياة اليومية والاقتصادية والزراعية والصحية للمنطقة.
يومها، قبل ستين عاماً، كان أهالي «القرى السبع» التي تزنر البحيرة اليوم مكتفين بالليطاني الذي يجري في سهل قراهم زارعاً الحياة على الضفتين. أراضيهم الممتدة في السهل المصغر عن سهل البقاع الأوسط تروى بمياه الليطاني الذي كان يتجه نحو الجنوب صافياً كـ «دموع العين» وغزيراً. قررت الدولة تنفيذ مشروعها واستملكت أراضيهم وهم «لا حول لهم ولا قوة» مع آمال كبيرة بتحسن الحال بناء على وعود أصحاب القرار وأولياء الأمر.
اليوم بعد ستين عاماً على إنشاء مصلحة الليطاني وبحيرة القرعون وسدّها اللذين يعتبران اللبنة الأساس في آلية عمل وتحقيق أهداف مصلحة الليطاني، قام أهالي بلدة القرعون، كبرى بلدات البحيرة، بردم القناة 900، وهي القناة الوحيدة المُنفذة لجر مياه الري من سد القرعون باتجاه البقاعين الغربي والأوسط (حيث هناك خطة لاستكمالها وصولاً إلى أبلح). هناك تجمّع أطفال ونساء ورجال وشيوخ البلدة وجاؤوا بآليات جرفت الردميات ورمتها في قلب القناة ليقفلوها إلى أجل غير مسمّى.
في القرعون المنكوبة كان حسام درويش، ابن بعلول جارة القرعون، ومن قرى البحيرة، يشارك مع الأهالي في ردم القناة 900. يروي أهالي بعلول جزءاً كبيراً من أراضيهم التي تمتدّ من أعالي البلدة إلى سهل البحيرة من مياه القناة المسحوبة من قعر البحيرة الذي تثبت الدراسات أنه الأكثر تكثيفاً بالملوّثات من معادن ثقيلة وغازات سامة.
السلسلة الشرقية ليست غنية بالمياه، كما شقيقتها الغربية. يقول درويش إن كل تلك المنازل الجميلة في بلدته هي نتاج غربة أبنائها وتعبهم في بلاد المهجر. لم تأت البحيرة بالخير للبلدة، لا بل على العكس، و «برغم بُعد القناة نسبياً عن منازل بعلول إلاّ أن روائحها تكاد تهجّر مَن بقي منهم صامداً في البلدة».
مع درويش كان ابن لالا فارس سليمان مع مجموعة من شبان بلدته وصباياها، يشاركون في الاعتصام ضد تلوث الليطاني وبحيرة القرعون. هناك في سهل لالا يقول سليمان إن آلاف الهكتارات العائدة لأهالي بعلول ولالا وحتى القرعون، مروراً بجب جنين وخربة قنافار وعين زبدة سوف تيبس بسبب قطع مياه القناة 900. ولكن «ما هو الأهم؟»، يسأل سليمان، ليقول «إن المياه الملوثة تروي الخضار فنحصل على ثمار قاتلة، كما تؤدي مياه القناة والبحيرة وروائحهما إلى أمراض ليس أقلها السرطان».

عيتنيت
بعد سد القرعون تلتف الطريق نحو مشغرة لتنعطف قبل تلة «قمر مشغرة»، كما يسمّيها البعض، لتتجه نحو عيتنيت، أولى قرى البحيرة لناحية مشغرة.
يجلس مختار عيتنيت على شرفة منزله في بلدته التي تطل على البحيرة ببعد لا يقلّ عن ثلاثة كيلومترات. البلدة التي تلتحف قلب السلسلة الغربية تربض بمأمن من روائح البحيرة إلا إذا هبّ الهواء غربياً.
يقول المختار، الذي يستمتع بمشهد البحيرة المنبسطة من بعيد أمام ناظريه، أن مشروع السد أخذ 70 في المئة من أراضي عيتنيت. يومها «وعدونا بمياه نظيفة للري وبطاقة كهربائية مجاناً لكونهم اشتروا منا أرضنا بتراب المصاري والقروش».
ليس لعيتنيت ماء للري يقول المختار، فيما تمتد أراضيها البعلية تحت ناظريه مزروعة بكروم الزيتون.
يقول المختار إن روائح البحيرة تصل صباحاً إلى عيتنيت قاتلة «ما فينا نتنفس». الواقع منذ زمن وحتى اليوم دفع بـ 97 في المئة من أهالي عيتنيت إلى الهجرة. وهناك في الاغتراب صار لها ستة آلاف «عيتنيتي في كليفند أوهايو في أميركا، ونحو ألف آخرين في كندا». أما من هم هنا بين بيروت والضيعة فلا يتخطون الـ 500 شخص. يوجد على لوائح الشطب في عيتنيت ثلاثة آلاف ناخب فيما يقترع ثلاثمئة فقط. يعيش مَن بقي في البلدة من أموال المغتربين. هنا لا تسأل عن الدولة التي سعى أهالي عيتنيت لامتلاك جنسيات أخرى تعوّضهم غياب «أمهم الرسمية».
اغتراب عيتنيت ينسحب على صغبين التي كانت تحتفل بإنجاز بئر ماء «عين السماق» في خراجها الغربي. العديد من أهالي صغبين يعيشون في المهجر فيما نزح أخرون نحو المدن وراء لقمة العيش.
لكن أهالي صغبين، كمعظم أهالي القرى، ما زالوا متعلقين ببلدتهم لا يتركونها في نهاية الأسبوع، وخصوصاً في الأعياد. بعض الذين لديهم أطفال صغار السن تمنّعوا هذا العام عن قضاء الصيف في بلدتهم، برغم بعدها عن البحيرة حيث تقع على الارتفاع نفسه لعيتنيت.
يقول مختار صغبين ميشال عيد كنعان إن «البحيرة كلها مجارير، والناس ميتة من المرض، من الكريب والحساسية وصولاً إلى السرطان». ويستدرك المختار حامداً الله على نجاة صغبين من السرطان «بس يا حرام أهل القرعون آكلينها أكتر شي».
يردّ كنعان نجاة صغبين من الأمراض لبعدها عن البحيرة أولاً، ولتوفر الينابيع فيها ثانياً «مثلاً نحن نشرب اليوم من بئر عين السماق لأن التحاليل أثبتت نقاوته».
مع عين السماق تزخر صغبين بالينابيع التي تتفجر من السلسلة الغربية وتبقى جارية حتى في عز الصيف ومنها ينابيع عين القمر وعين الغزال ونبع الصفصاف «ولذا نحن لا نستعمل مياه البحيرة للري».
تعتبر صغبين غنية بأراضيها، وبرغم أنهم استملكوا منها مئات الدونمات، كما يقول المختار لإنشاء البحيرة، إلا أن أرضها تمتد إلى الضفة الأخرى في أسفل لالا وبعلول «تلك أراضٍ صارت يابسة اليوم مع ردم القناة 900، وخسائر الناس بمئات آلاف الدولارات».

باب مارع
يفخر مختار مزرعة باب مارع أن قريته لا تسلّط صرفها الصحي إلى بحيرة القرعون «عنا محطة تكرير، نحن فقط نتضرّر من المياه الآسنة الآتية من منبع الليطاني إلى السد مروراً بكل المنطقة، ومعها النفايات الصناعية».
عندما يهبّ الهواء الغربي، تنتشر في باب مارع الروائح القاتلة. حينها يهجر أهلها شرفاتهم التي وسّعّوها لتطل على مشهد البحيرة الجميلة، ويقفلون أبوابهم ونوافذهم وينحبسوا داخل غرفهم. غير ذلك لا تروي باب مارع مزروعاتها لا من الليطاني ولا من البحيرة «عندنا ينابيعنا التي تكفينا، ونحمد الله على ذلك»، يقول المختار، «على الأقل نجد خضاراً نظيفة وغير مسمّة».

مستنقع يقتل محيطه: هذه سموم البحيرة
تقع بحيرة القرعون التي كان يجب أن تكون مصدر إنماء كبيرا لمنطقتها أولا، ولكل لبنان ثانيا وفي قلبه الجنوب، ضحية ملوثات حوض الليطاني من منبعه في العلاق إلى مصبه فيها، في البقاع الغربي.
تنتج هذه الملوثات عما يوّلده قطاع مياه الصرف الصحي المنزلي في البقاع والذي قدر بحوالي 45.4 مليون متر مكعب سنة، ويتوقع أن يصل إلى 62.9 مليون متر مكعب بعد سنوات عدة.
وتتلقى البحيرة أيضاً عبر الليطاني النفايات الصناعية السائلة والخطرة لـ650 مؤسسة صناعية ومزرعة ومعملا تنتشر في كامل حوضه الأعلى ويفوق حجم نفاياتها المليون متر مكعب من الملوثات الخطرة.
يقول أستاذ الهيدروبيولوجيا في كلية العلوم (الجامعة اللبنانية) الدكتور كمال سليم، وأحد خبراء المجلس الوطني للبحوث العلمية، إنه بعدما أدت طحالب السيانوبكتيريا إلى موت بحيرة القرعون سريرياً بسبب تفشي سمومها وسماكتها الكبيرة التي وصلت إلى نحو عشرة أمتار في بعض الأماكن، أجرى المجلس فحوصات علمية على عينات من قعر البحيرة. وجاءت نتائج عينات القعر لتثبت افتقار المياه للأوكسيجين مع تكثيف كبير للغازات السامة. ومن هذه الأعماق يتم ضخ مياه البحيرة نحو القناة 900 التي أقفلها أهالي القرعون، ونحو ليطاني الجنوب.
ويزخر قاع بحيرة القرعون، وفق سليم، بغازات الأمونيا والميتان والكبريت.
وتسبب هذه الغازات السامة أمراضا ليس أقلها السرطان ومعه الأمراض التنفسية على أنواعها وتضرب الجهاز العصبي وتؤدي إلى التهابات في الأمعاء وهي أحد أسباب تسريع سرطان الكبد وتشوهات الكلى وارتفاع في الحرارة وآلام في الأمعاء والعضل وأوجاع في الحنجرة وحساسية في الفم، وتبرز عوارض التقيؤ والتحسس في العيون والأنف والالتهابات الجلدية وتشقق البشرة. كما ترتبط بأمراض الجهاز العصبي وخصوصا البانكرسون والألزهايمر.
ورجح الدكتور سليم أن تكون البحيرة هي السبب الرئيسي في تلوث المياه الجوفية في المنطقة المحطية بها بسبب طبيعة الأرض التي تمتص مياهها مع سمومها.

قطع الأرزاق من قطع الأعناق
يعرف اللبنانيون، وطبعا أهالي المنطقة وقرى منطقة القرعون، أن الليطاني ملوثٌ، وكذلك البحيرة. ولكن الحديث عن التلوث بهذا الحجم و «التدفق الإعلامي» غيّرا مجرى حياة أصحاب المقاهي والاستراحات على ضفتي البحيرة ومعهم العاملون في السياحة المائية من مراكب صغيرة وشخاتير، وطبعا صيادو الأسماك الذين انقطع رزقهم.
يقول وليد مبيض، صاحب أحد المطاعم على ضفة البحيرة إن «الضجة المفتعلة حول تلوث البحيرة ضرب خمسين إلى ستين في المئة من موسم المنشآت السياحية على ضفتها». يرى مبيض أن تلوث البحيرة ليس بجديد «هي ملوثة منذ ثلاثين عاماً والمسؤولون يعرفون ذلك قبل المواطنين، فماذا استجد هذا العام؟».
وفق رأيه «لا داعي للهلع لأن أصحاب المطاعم على البحيرة لا يستعملون ماءها أو يقدمون سمك «الكارب» الذي يعيش فيها، نحن نقدم سمك الترويت الذي نربيه في مزارع أقمناها على ينابيع المنطقة النظيفة، وأساسا الترويت لا يحيا في الماء الملوث».
ما يقوله مبيض عن تلوث البحيرة يؤكده صالح أبو ربيع، الذي يملك «لانش» لنقل السياح في رحلة على سطح البحيرة «كنا ما نلحق شغل»، يقول الرجل الذي أهمل مركبه منذ توقفت السياحة على البحيرة «ما عاد حدا بده يتنزه بالبحيرة، العالم خايفة كتير»، ويسأل «مين بيدفع أقساط اولادي وبيطعميهم بالشتا؟».
على ضفة البحيرة لناحية القرعون كان فادي حمد، ابن القرعون، يجلس مع عائلته على تلك الطاولات الفارغة من حوله «يكشون الذباب» المنتشر بكثافة. لا يريد حمد أن يعترف بأن تلوث البحيرة هو السبب في إحجام الزبائن عن ارتياد المكان «الوضع الاقتصادي للناس هو السبب، الله يساعد العالم». يدافع حمد عن البحيرة «أصلاً بعدنا عم ناكل منها سمك وما صرلنا شي»، ليدعو الناس إلى عدم الخوف «كله حكي»، وفق ما يقول.
كلام حمد تدحضه معاناة «أبو فراس»، صياد السمك، الذي انقطع رزقه مع أقرانه «ليش لنكذب ع بعضنا؟ ما بقى حدا يسترجي يشتري أسماكنا». يقصد أبو فراس مناطق جبل لبنان وبيروت ليبيع ما يصطاده من البحيرة «ما بخبي عليكم الناس هونيك ما بتسألني عن المصدر يمكن ما بيتوقعو انني قادم من بحيرة القرعون، وإلا ماذا أفعل؟». لا يتقن أبو فراس سوى الصيد مهنة أعال منها عائلته على مدى عشرين عاماً «هيدا يلي طلع لنا من الدولة، تلوث يقتل البحيرة والناس، فشكراً لهم».

المسطح المائي الأكبر في لبنان
تختم بحيرة القرعون مجرى الليطاني وحوضه الأعلى مشكّلة المسطح المائي الأكبر في لبنان. يبلغ طول البحيرة 5.4 كيلومترات، أما عرضها فيصل في أوسع نقطة منه إلى 2.1 كيلومتر، وينحصر في 1.5 كيلومتر في أضيق نقطة.
تصل القدرة التخزينية وسعتها لبحيرة القرعون إلى 220 مليون متر مكعب، يستخدم منها 160 مليون متر مكعب سنويا للري وتوليد الطاقة الكهرومائية (169 ميغا واط كهرباء)، بينها 60 مليون متر مكعب كمخزون للموسم الجاف.
يتم تخزين حوالي 40 مليون متر مكعب على أقل تقدير خلال السنة ضمن طبقة تغذية سطحية هيدروجيولوجياً. تعتمد بحيرة القرعون نظاماً ديناميكياً حيث تتلقى جزءاً كبيراً من نهر الليطاني وجزءاً أقل بكثير من المياه الجوفية عبر الشقوق والتصدعات في قعرها.

السفير