يستمر القيصر الجديد في اندفاعاته وكأنه في سباق مع التاريخ، ويحاول في الأشهر الأخيرة لولاية باراك أوباما تحقيق إنجاز بالنقاط أو الصدمات.. ميدانه يتمدد من شبه جزيرة القرم في البحر الأسود، إلى سوريا على ساحل شرق البحر الأبيض المتوسط، ولأول مرة في قواميس السياسة الدولية تفتح إيران قواعدها العسكرية لقوات أجنبية وتنطلق منها قاذفات موسكو الاستراتيجية. يأتي ذلك بعد أيام على قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعزل رئيس ديوانه المقرب منه جدا سيرجي إيفانوف. هل هي قفزات نوعية لبوتين لاعب الجودو، أم هي قفزات لاعب شطرنج تطمس حركة هروب إلى الأمام وتتمثل في تصعيد خارجي للتمويه على حقيقة الأوضاع الروسية؟
بينما كان مقررا حسب مقررات فيينا بخصوص الأزمة السورية (في مايو الماضي) أن يكون موعد الأول من أغسطس مفصليا لجهة بدء مرحلة انتقالية نحو الحل السياسي، احتدمت معركة حلب وجوارها، واعتقد الحلف الداعم للنظام السوري أنه اقترب من الحسم عبر إحكام الحصار على شرق حلب، لكن هجوم المعارضة المسلحة في جنوب المدينة أربك الحسابات الروسية والأميركية في فرض تصور للحل على أساس ميزان قوى مختل تماما لصالح النظام. بالرغم من متاعب أنقرة الداخلية والاستدارة التركية وقمة سانت بطرسبورغ بين بوتين وأردوغان، وبالرغم من السعي المحموم للضغط على المملكة العربية السعودية من خلال حرب اليمن، لم تُسلّم أنقرة والرياض بقبول الخسارة في الشمال السوري وتسليمه للمحور الروسي – الإيراني، ووجدت واشنطن نفسها في موقع حرج لأن تفاهماتها مع موسكو أخذت تبدد تحالفاتها الإقليمية وتهدد بتغيير المعادلة الاستراتيجية.

إزاء منعطف معركة حلب وجوارها وإصرار واشنطن على إبقاء معادلة لا تسمح بنصر حاسم للمحور الروسي مما يضيق هامش مناورتها، يتعامل القيصر بوتين مع هذه المعركة وكأنه يريد تكرار ما فعله نابليون بونابرت بعد حصار قوات بروسيا (نواة ألمانيا لاحقا) وروسيا في دانتزيغ (بولندا حاليا) في 1807، لكن ذاك الانتصار لم يدم وبدأت حقبة تراجعات الإمبراطورية الفرنسية منذ 1809.

معركة حلب يريدها المحور الروسي شبيهة بمعركة ميسلون 1920 التي طوت الحلم العربي حينها، لكن الأمور تتجه لتكون حلب 2016 أشبه بسراييفو 1914 عشية الحرب العالمية الأولى.


لأول مرة في تاريخ المشرق تدخل الصين الميدان العسكري من خلال تدريب قوات النظام السوري، وهذا تطور رمزي له دلالته ليس فقط بالنسبة إلى تعزيز التحالف الروسي – الصيني حيال سوريا، لكن أيضا لجهة هذا التهافت الدولي. وفي نفس السياق واصلت موسكو استعراض عضلاتها الذي بدأ بقوة منذ صيف 2015، وتكلل منذ 16 أغسطس الجاري باستخدام قاعدة همدان الإيرانية في عمليات قصف داخل سوريا. تبرر الأوساط الروسية ذلك بالرغبة في تقصير المسافة والاقتصاد في مصاريف الوقود، أو لحماية هذه القاذفات من عيون التجسس الذي هو أسهل في تركيا والعراق. لكن الأهم هو تكريس هذا التحالف الاستراتيجي الروسي – الإيراني، وتنازل إيران السيادي لأن أولوية القيادة الإيرانية كسب المعركة الحيوية في سوريا وجر الجانب الروسي لهذه الأولوية المرتبطة بديمومة منظومة الأسد. وهذا يعني أن الكلام عن حلف روسي – إيراني – تركي ليس في محله، ويدلل كذلك على سقوط الرهان “الأوبامي” على ترتيب شراكة مع إيران. على الصعيد الإقليمي تزداد التحديات بالنسبة إلى الرياض التي تواجه معطيات استراتيجية لغير صالحها مع استمرار العزوف الأميركي والوضع الجديد في تركيا والتمدد الروسي في إيران والتصعيد في اليمن.

لكن هذه البانوراما لا تؤشر لاقتراب موعد الحسم كما ترغب “العسكريتاريا” الروسية والإيرانية لأن المحور الآخر يمتلك أيضا أوراقه، ولأن التخبط يبقى سيد الموقف كما لمسنا عند قيام طائرات النظام السوري بقصف مواقع وحدات الحماية الكردية في الحسكة. سنرى إلى أين سيصل استعراض القوة الروسي بعد اجتماع جون كيري وسيرجي لافروف المرتقب في جنيف في 26 أغسطس، لكن مما لا شك فيه أن الشهور القادمة في النزاع السوري ستكون حبلى بالمفاجآت.

بيد أن بوتين المحارب المختال على الجبهات الخارجية، هو بوتين صاحب القبضة الحديدية في الهيمنة على الداخل الروسي لأنه لا ينسى كيف انهارت يوما الإمبراطورية السوفيتية مثل قصر من ورق الكرتون أواخر ثمانينات القرن الماضي.

قبل أربعة أيام من الإعلان عن استخدام العمق الإيراني، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 12 أغسطس بعزل رئيس الديوان سيرجي إيفانوف الذي شغل منذ أربع سنوات هذا المنصب الاستراتيجي في الحكم الروسي.

يشكّلُ استغناء القيصر الجديد عن حليفه القديم سيرجي إيفانوف منعطفا يؤكد التحول الكبير في طبيعة النظام، إذ لم يعد بوتين كما كان الأمر في الحقبة السوفيتية الأمين العام للحزب والناطق الرسمي أو الواجهة للتركيبة المعقدة المؤلفة من أجهزة الأمن والمجمع العسكري والمجموعات المتنافسة في الكرملين وقطاع الأعمال والشبكات الموازية، بل تحول بوتين إلى الرقم واحد على كل الأصعدة، وغدا النظام أحاديا وشخصيا.

ليس هناك من مكان للرجال الأقوياء إذن. إيفانوف الذي كان من الحلقة الأولى حول بوتين منذ أيام “الكي جي بي”، والذي كان المساعد الأول له حينما تولى الرئيس الروسي الحالي منصب رئيس جهاز الاستخبارات الروسية في عام 1998، أصبح منذ ثلاثة أيام رقما منسيا ومجرد ممثل للرئيس في شؤون البيئة والنقل. إيفانوف كان قبل ذلك وزيرا للدفاع بين 2001 و2008، وبعد ذلك نائبا لرئيس الوزراء.

وفي شهر يوليو الماضي أكمل فلاديمير بوتين بسط قبضته الحديدية عبر تعيين محافظين جدد وقيادات جديدة في الأقاليم والمناطق، وحسب المراقبين تدل هذه التطورات على وجود توتر وانقسامات داخل دوائر الحكم الروسي، تعززت بسبب تداعيات تراجع سعر الروبل والأزمة الاقتصادية الحادة.

ترافقت الهزة داخل الكرملين مع عودة اختبار القوة إزاء شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، وأعقبها التمدد في الحلف الاستراتيجي نحو إيران.

ظن البعض أن الأمر استتب للقيصر الجديد في صعود نجمه العالمي، خاصة بعد مجيء أردوغان إليه وإعادة الوصل معه، لكن إقصاء إيفانوف وعودة التوتر في الملف الأوكراني والتصعيد في سوريا، لا تدلل على أن الأمور محسومة لصالح سيد الكرملين.

العرب د. خطار أبودياب