تفقد شباك الصيّادين في الجناح وظيفتها عاماً بعد عام. يُلقيها الصيّادون على الشاطئ لتنظيفها من الوحول بعد كل جولة لهم في البحر. بانفعال "يفرك" الكابتن فرحان الشباك بين يديه الصلبتين، بينما يعاونه ابن أخيه الصغير بسكب المياه عليها. ينظر إلى شباكه المُحمّلة بالتراب بوجع قائلاً: "نحن ما عم نتصيّد سمك، صرنا عم نتصيّد رمل أحمر وتراب وزبالة".

معاناة الصيادين في منطقة الجناح و "السان سيمون" تعود إلى خمس سنوات خلت، ولكنها تفاقمت مع أزمة النفايات، إذ إنه بالإضافة إلى تحويل العديد من أنابيب الصرف الصحي لتصب في البحر حيث يقطن هؤلاء، غزت عصارة النفايات والنفايات شاطئ المنطقة، وها هي معامل غسل الرمول تتخلص من نفاياتها عبر رميّها في البحر أيضاً. كل ذلك، دفع بالصيادين إلى تنظيم الاعتصامات رفضاً للاستمرار في تلويث البحر والقضاء على الثروة السمكية فيه وبالتالي قطع أرزاقهم، كان آخرها بالأمس حيث قطعوا الطريق البحرية في محلة الجناح - السمرلاند بالاتجاهين واضعين مركب صيد وسط الطريق وفي داخله مياه ملوثة.

يوضح نقيب صيادي الجناح ورئيس جمعية صيادي الأسماك في الجناح والرملة البيضاء إدريس عتريس أن "سبب تلوّث البحر يعود لرمي معامل غسل الرمول المحيطة بالمنطقة لمخلفاتها في البحر"، مشيراً إلى أنه "بمجرد النظر في لون مياه البحر يمكن التكهن بحجم التلوّث الحاصل فيه، إذ يصبح الأزرق احمراراً شاملاً، حتى يُخيّل إلينا أن مجزرة دماء وقعت هنا!".

تصبّ مياه غسل الرمول الملوّثة المُنتجة من المعامل الكبرى (أحدها موجود في منطقة برج البراجنة وآخر في منطقة الشويفات) في "ريغار" مُخصص لتصريف مياه الشتاء موصول على "الريغار" الأساسي في المنطقة، ثم تُضخّ المياه من هناك إلى أنبوب الصرف الصحي المحوّل إلى البحر لتصبّ المياه الأسنة ممزوجة بمياه غسيل الرمول في أعماقه، وفق ما يكشف أحد الصيادين. ويؤكد أن "مياه غسل الرمول الحمراء يُمكن معاينتها تخرج من أنبوب المجارير على الشاطئ بالعين المجردة، وهي تصبغ الصخور والشباك ومياه البحر بلونها الدامي"، مشيراً إلى أنها "قتلت الحياة على الصخور، فلم تعد الطحالب الخضراء تنبت عليها ولم يعد السمك يرتادها ولا يقترب من شباكنا بل يختنق بحبات التراب التي تطفو في عمق المياه، ما يعني القضاء على مصدر عيشنا الوحيد تدريجياً".

مَوّهَ أطفال الصيادين بالأمس وجوههم باللون الأحمر. أرادوها أن تُشبه لون البحر الذي اشتاقوا إلى زرقته. وبينما كان الصيادون منهمكين بإطلاق المواقف أمام الكاميرات، هبّ أطفالهم ليشكوا أحوالهم: "بدنا نسبح ما بيخلونا"، يقول رامي ابن الستّ سنوات. فيقاطعه عتريس قائلاً: "يكفينا ما حدث لأخيك الأكبر سناً»، موضحاً أن «أحد الشبان كان مبحراً الأسبوع الماضي للصيد إلا أن شباكه علقت في المياه بسبب الرمول وكثرة النفايات، وعندما حاول سحبها ابتلع كمية كبيرة من المياه. وما إن وصل إلى الشاطئ حتى ساءت حالته الصحية واضطررنا إلى نقله إلى المستشفى حيث تبيّن أنه يُعاني من تسمم حاد بسبب الباكتيريا والملوثات الموجودة في المياه".

يتذرع أصحاب المعامل باستحصالهم على رخصٍ من الدولة اللبنانية تُجيز لهم إنشاء المعامل، مُصدقة من وزارتيْ الصناعة والبيئة، إلا أن عتريس يوضح أن "تلك الرُخص أُعطيت لهم على أساس تعهدهم بإنشاء محطات تكرير ومعالجة"، مناشداً "وزارة البيئة التحرك ووقف التعدّي على البحر لاسيما لأن الأمر لا يقتصر على التلوّث البيئي بل يُهدّد صحتنا وأرزاقنا". أما وزير البيئة محمد المشنوق فيؤكد لـ "السفير" أن "الوزارة لم تُعطِ تراخيص جديدة لأحد"، مشيراً إلى أن "المحامي العام البيئي الذي يُتابع هذا الملف يعمد إلى الطلب من وزارة الداخلية وقف أعمال مغاسل الرمول المخالفة بناءً على شكاوى من المواطنين أمام المخافر في المناطق".

في ترجمة لكلام المشنوق يبدو أن الوزارة تنتظر تبليغات المواطنين عن المخالفات، لكن الأخير يرفض هذا التفسير معتبراً أنه "لا يجوز تحميل الوزارة المسؤولية كلها فهي تعمل بأقل من 50 في المئة من حاجاتها وليس بمقدورها لعب أدوار أكبر من طاقتها"، مشيراً إلى أن "مجلس الوزراء أقرّ أول من أمس إنشاء الضابطة البيئية التي من شأنها العمل على مراقبة المعامل وتسطير محاضر ضبط بحقها، ولكن الأمور تحتاج إلى بعض الوقت".

من جهته، يرفض رئيس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية محمد درغام التعليق على الموضوع مكتفياً بالقول لـ "السفير": "رفعنا كتاباً خطياً إلى محافظ جبل لبنان فؤاد فليفل بهذا الخصوص، ونحن نلتزم حرفياً بما سيقرّره".

كان من المُقرر أن يُشارك صيّادو ميناء الأوزاعي في اعتصام أمس، إلا أنهم عدلوا عن قرارهم في اللحظة الأخيرة، وفق عتريس. يُرجّح بعض الصيادين أن "ضغوطاً مورست عليهم للامتناع عن المشاركة"، ويكشفون أن "عدداً كبيراً من الصيادين يتلقون تهديدات من قبل زُعران أصحاب المعامل لإخضاعنا على التزام الصمت وعدم فضح ممارساتهم، لكننا نقول لهم: للصبر حدود".

( السفير)