استمرت الشاحنة في دهس المواطنين على مسافة كيلومترين في مدينة نيس الفرنسية! ربما كانت هذه من المرات النادرة التي يُقاس فيها القتل بالكيلومترات. ولكن قبل ذلك بأقل من شهرين أقدمنا على قياس القتل بآلة الزمن، اذ إن قاتل أورلاندو عمر صديق استمر في قتل ضحاياه في ملهى المثليين على مدى ثلاث ساعات متواصلة.

 

 

يقف خيال جامح حول نزوعنا إلى تفسير القتل على هذا النحو. قتل استمر لكيلومترين اثنين، وقتل تواصل ثلاث ساعات. الأرجح أن وراء هذا الجموح حقائق جديدة لابست الجريمة. فهذه جريمة مشهد، والمشهد يُقاس بالزمن وبالمسافة، و»داعش» وضعنا أمام حقيقة تحويله القتل مشهداً، واستدرجنا إلى جموح تصعب النجاة منه. ذاك أن واحدنا في التقاطه مشهد القتل صار جزءاً من الجريمة، ان لم نقل مشاركاً فيها. المشهد متشكل من ثلاثة عناصر لا يمكن للجريمة أن تتحقق من دونها. القاتل والضحية ومُتلقي الصورة. والأخير هو نحن، وبما أننا لسنا الضحية ولسنا الجاني الذي قُتل، يبقى أننا الجزء الذي ما زال حياً من مشهد الجريمة.

 

 

ليس هذا هذيان المفجوع بمشهد شاحنة استمرت في دهس محتفلين على مسافة أكثر من كيلومترين فقتلت منهم أكثر من ثمانين وجرحت أكثر من مئتين. «داعش» أراد مشهداً، والعالم قَدّم له ما أراد. و «داعش» الذي ما زال على قيد الحياة، صار موجوداً في كل نقطة ضعف في هذا العالم. وفرنسا التي توهمت نفسها قوية إلى حد يُمكنها من هضم الضعفاء في نظامها، ها هي تكرر المشهد للمرة الخامسة.

 

 

لا مناص من الموت، والعودة إلى ألف باء «داعش» تفيد بأننا بصدد مزيد من المشاهد، ومن تكرار قاتل وممل لفعلة شاحنة نيس. ليس مهماً أن نعرف ما اذا كان خُطط لعملية نيس في سورية أو في العراق، وما اذا كان المنفذ زار «داعش» في دولة خلافته. سبق أن فعلنا ذلك في أعقاب هجمات باريس وبعدها بروكسيل، إلى أن جاء قاتل أورلاندو ليقول لنا إن الخلل جوهري أكثر من إمكان تفسيره بوقائع صارت رتيبة. قوة القتل تكمن في قدرة «داعش» على استدراجنا إلى أن نكون جزءاً من مشهد جريمته، وفي أن نكون شريكاً فيها طالما أننا لم نمت. القتل أسهل من أن نفسره بوقائع وحقائق معقدة. القتل شاحنة جعلتها الكاميرا رشيقة، ووحده «داعش» من يستطيع قيادتها.

 

 

هل القاتل من العائدين من العراق أو سورية؟ لم يعد الجواب مهماً. هو تونسي وفق بطاقة الهوية التي عُثر عليها في الشاحنة. وهناك حوالى خمسة آلاف تونسي قاتلوا في صفوف التنظيم في سورية والعراق وليبيا. أي جديد يمكن أن يحمله تقصينا هذه الاحتمالات؟ نحن أمام قتل، وأمام إمعان في القتل استمر لأكثر من كيلومترين! الوقائع التي قادت المرتكب إلى الإقدام على هذا الفعل الرهيب تبدو عادية اذا أُعيدت إلى سياقها الجريمي. الجديد وغير العادي هو المسافة التي اقتضتها الجريمة حتى اكتملت، وهو الموت المستمر على طول تلك المسافة، وهو أن سائقاً راح يُراكم القتل ويُوسعه بحيث أن الأخير لم يعد لحظة منقضية ينتقل فيها القاتل من كونه مريضاً إلى كونه مجرماً. وهذا تماماً ما يعنيه «داعش»، أي في جعل الجريمة حقبة وحياة وموديلاً، وليس لحظة منقضية.

 

 

والحديث صحيح عن خلل هائل أصاب النظام الأمني الفرنسي والأوروبي ومكّن «داعش» من تنفيذ هذا الكم الهائل والمتلاحق من العمليات، لكنه جزئي، عاجز عن تفسير كل الجريمة. القاتل التونسي وفق الهوية التي عُثر عليها في الشاحنة استثمر في خلل ما في هذا النظام، لكن قوة عزيمته على القتل مستمدة من مصدر آخر غير هذا الخلل. ثم إن «داعش» في قدرته المذهلة على توظيف الفعلة في صورته، يدفع إلى مراجعة كل أدوات التفسير، وربما يردنا إلى ما قبل المعرفة، وإلى بديهة أن الإنسان يقتل أيضاً، تماماً كما يقود شاحنة وكما يُمضي ليلة صاخبة في نادٍ ليلي.

 

 

على الانسانية أن تُسارع إلى قتل «داعش» قبل أن نؤمن بأن ما يفعله هذا التنظيم المسخي هو جزء عادي من طبيعة الأشياء. ثمة مؤشرات حقيقية إلى هذا الاحتمال. فكثافة الصور الملتقطة من مسارح الجرائم جعلت المشاهد عادية. ثم أن هذه الجريمة ما كان يمكن أن تحصل، أو أن تتحقق لولا أن لـ «داعش» دولة يُمكن أن يُرد المشهد إليها. القضاء على «داعش» يُعفي الإنسانية من وجود جذر للجريمة غير الجذر الفصامي والإجرامي، ويسحب من القاتل عزيمة موازية لعزيمته الأصلية، وهذا على الأقل كان ليُقصّر مسافة الجريمة التي امتدت لأكثر من كيلومترين. فالشاحنة مدفوعة بجنوح مجرم، ستكون أقل عزماً مما اذا كانت مدفوعة بجنوح مسخ جماعي.

 

 

القضاء على «داعش» لم يعد يحتمل التأخير. عمر «دولة الخلافة» صار أكثر من أربع سنوات، وهذا وقت كاف لتحويل المرض إلى ظاهرة عادية، ولجعلنا نعتقد ونقتنع بأننا جزء من الجريمة. والأخطر أن «داعش» تحول إلى وجدان يُزود مواطنيه في كل أنحاء العالم، بعدة قتل سهل لا يمكن النجاة منها إلا عبر اقتفاء أثرها في «دولة الخلافة».

 

 

جريمة نيس ما كان يُمكن أن تتحقق لولا أن العالم تقاعس في مهمة القضاء على «داعش»، بل أنه وعلى مدى أربع سنوات من عمر هذه «الدولة»، تعامل معها بـ «واقعية» غير أخلاقية وتاجر معها بالنفط والإسمنت والآثار، وأجّل استحقاق القضاء عليها معتقداً بأن هذه ليست مهمته الداهمة. وتفادياً لمولود جديد يعقب «داعش» بعد القضاء عليه، لن تكتمل المهمة من دون محاسبة من تلكأ بالمهمة.

 

 

وبانتظار هزم التنظيم في دولته، علينا أن ننتظر بعداً ثالثاً للجريمة بعد بُعدها الزمني في أورلاندو وبعدها «المسافاتي» في نيس. وربما أذهلنا «داعش» بنوع من الجريمة المستمرة وغير المكتملة، بحيث تكون متواصلة ولا يمكن وقفها. فهلموا إلى القتال في الموصل قبل أن ينجح.