بدايات التطلع الى عمل سلفي دعوي منظم أرهصت منذ العام 1932 وهو تاريخ الاعلان عن قيام المملكة العربية السعودية ثم انضمام جماعة مجلتي المنار والفتح الى الدعوة لها والترويج لفكرها الوهابي… وقد كان الطرابلسيون يتأثرون جداً بدعوة المنار والفتح كما رأينا… ولعل فاصلة الحرب العالمية الثانية قطعت أواصر الصلة والعلاقات بين طرابلس والمحيط العربي..الأمر الذي يفسر عدم تشكل تيار اسلامي سلفي قبل العام 1946؛ وهو تاريخ استقلال سوريا واشتداد قوة الاخوان المسلمين في مصر وبداية تشكلهم في سوريا (وكان مصطفى السباعي أول مراقب عام لهم 1946-1964)..

وقد اختلطت بدايات السلفية الطرابلسية ببدايات الإخوان المسلمين السوريين (مع مصطفى السباعي ورفاقه ومنهم الشيخ عبدالقادر بدران والشيخ زهير الشاويش)… وفي الفترة من 1946 الى 1964 ارتبطت طرابلس بتطورات الحركة في سوريا وفلسطين…

وبحسب شهادات كثيرة أمكن جمعها قامت في سنة 1946 في طرابلس جماعة (شباب محمد) ، التي غدا اسمها فيما بعد «مسلمون» بقيادة «أميرهم» الشيخ سالم الشهال ، وكانوا يؤثرون اتباع السنة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ فأطلقوا لحاهم، بحيث لا تقل عن قبضة اليد، وكانوا يستحسنون تخضيبها بالحناء الحمراء (وهو ما اعتاد عليه أميرهم سالم الشهال بصورة دائمة). ووضعوا العمامة (الطاقية البيضاء ملفوف عليها شملة بيضاء مع ارتخاء ذيل لها على الظهر)، مع بيعة للأمير على أنه (أمير المؤمنين) لوجوب البيعة في الإسلام (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) فكانت جماعة «مسلمون» بحق أول حركة إسلامية شعبية في طرابلس، التزمت الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنهم لم يكتفوا بالأمر والنهي القوليين بل حاولوا تغيير المنكر، وفق رأيهم، باليد، ولم يتردد بعضهم من استخدام ماء الفضة المحرق فرشوا بقليل منه ثياب بعض النسوة، اللواتي نزعن غطاء الرأس، وبدأن يكشفن عن سواعدهن وسيقانهن بقصد إرهابهن ولكن دون إيذائهن. وقد أثار ذلك ضجة كبيرة في البلد، وقاموا بحملة ضد السينما وإعلاناتها، حيث كانت تلك اللوحات الإعلانية تنتشر أمام سرايا طرابلس العثمانية، فقاموا بتكسيرها؛ وقد شارك في الحملة الشيخ سالم الشهال نفسه، والشيخ عثمان صافي وهو أحد خريجي الأزهر الشريف…

وقد قامت الجماعة بحركة كبيرة ضد نقابة المحامين التي كانت دعت لمشروع قانون مدني للأحوال الشخصية يتضمن إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد قضايا الأحوال الشخصية في الإطار المدني… لكن هذه الحركة السلفية البدائية ما لبثت أن انطفأت وماتت في النصف الثاني من الخمسينيات وخصوصاً بسبب انتشار المد القومي العربي الناصري في طرابلس الباحثة عن هويتها العربية الاسلامية في وجه أيديولوجية الكيان اللبناني الجديد…

وفي العام 1948 وإثر نكبة فلسطين عاد محمد عمر الداعوق البيروتي من حيفا وكان قد عرف هناك وصاحب قيادات إخوانية بارزة.. وكان شديد التأثر بما حدث في فلسطين ويعتقد بقوة بأن سبب النكبة هو ابتعاد المسلمين عن دينهم وتقليدهم للغرب، فابتدأ يطوف المساجد داعياً إلى التكتل الاسلامي… وخلال بضع سنوات صار عدد أعضاء جماعة عباد الرحمن يفوق العشرة آلاف شاب.. وفي طرابلس نشأ فرع الجماعة من قلب جمعية إسلامية عريقة هناك هي جمعية مكارم الأخلاق.. وصارت الجماعة تنافس أكبر تنظيم سني لبناني يومذاك وهو حزب النجادة… لا بل أن الداعوق وقّع عام 1951 مع بيار الجميل زعيم حزب الكتائب المسيحية على وثيقة تنص على تعاون الطرفين في نشر القيم والمبادئ الأخلاقية ورد الاعتداءات الخارجية عن لبنان..

كان مصطفى السباعي مراقباً عاماً للاخوان في سوريا ولبنان معاً منذ العام 1946 وحتى وفاته عام 1964.. وفي 16 كانون الثاني/يناير 1952 لجأ السباعي إلى بيروت بعد أسابيع على الانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي وقراره حل جميع الأحزاب السياسية في سوريا..

مجيء السباعي الى بيروت كان بداية الأزمة والصراع داخل جماعة عباد الرحمن التي كانت تعتبر نفسها مستقلة عن الاخوان ولا تخضع لرئاسة المرشد العام السوري…ويبدو أن جناح الجماعة في طرابلس اقترب أكثر من المنحى السياسي للاخوان وممثلهم الكبير السباعي، وابتعد رويداً رويداً عن المنحى الدعوي الاجتماعي التربوي الاخلاقي لعباد الرحمن…

في عام 1956 تأسس أول مركز لجماعة عباد الرحمن في طرابلس، وكانت الجماعة في بيروت تنشر فكرها وتوسع نطاق عضويتها دون أن تعتمد مساراً سياسياً محدداً، في حين كان مركز طرابلس يصدر مواقف سياسية من الصراع الداخلي اللبناني خلال فترة حكم الرئيس كميل شمعون ومن القضايا الإقليمية كالموقف من الوحدة العربية ومشروع إيزنهاور وحلف بغداد والصراع العربي الإسرائيلي، وأصدر نشرات غير رسمية كمجلة “الفجر” عام 1957 و”الثائر” عام 1958..وفي تلك المرحلة اتسع الاتصال والتعاون بين السباعي ومجموعة طرابلس.. وعندما اندلعت أحداث 1958 وما صاحبها من فرز وطني وطائفي كان لجماعة عباد الرحمن بطرابلس موقع سياسي وعسكري واضح ، فأنشأت معسكراً للتدريب وأقامت محطة إذاعة “صوت لبنان الحر” كانت هي الوحيدة في الشمال حتى الشهور الأخيرة للأزمة.. بينما اكتفت الجماعة في بيروت بدور اجتماعي إغاثي، مما أدى أوائل الستينات إلى أن يستقل العمل الإسلامي في الشمال عن عباد الرحمن، وأن يبدأ تشكيل جماعة جديدة. و قد ولدت (الجماعة الاسلامية) التي تنتمي إلى مدرسة (الأخوان المسلمين ) في طرابلس عام 1964 وذلك على يد (فتحي يكن) و(فيصل المولوي) و(محمد علي الضناوي) و(عبدالله بابتي)…