توأمان على الأرض وفي السماء، أمضيا حياتهما معاً، تبادلا خلالها الأفراح والأتراح، وحين تربص الموت بهما في بركة بتدعي الاصطناعية في قضاء بعلبك، أبى الواحد منهما مفارقة الآخر، فتمسكا لمواجهته معاً، شبكا أيديهما جيداً، قاوماه علهما ينتصران عليه، لكنه استفرس، وفي النهاية خطفهما ورحل، غير آبه بهول الكارثة التي ستحل على عائلة اسكندر، والخسارة المزدوجة لشابين كانا شمعتي البيت. انطونيو وايليا ملاكان اليوم في السماء كما كانا على الأرض.

 

ملائكة على الأرض
لم تكتمل فرحة أنطونيو (14 سنة) بنجاحه في الشهادة المتوسطة، ولا بالهاتف الخليوي الذي اشتراه له والده هدية قبل نصف ساعة من خروجه من المنزل ووقوع الكارثة، وضعه في الكهرباء لشحنه ولا يزال، قبل ان يخرج مع شقيقه ايليا للقيام بجولة في الضيعة مشياً على الاقدام. لم يتوقع والدهما حنّا انها المرة الاخيرة التي سيودعانه فيها، وانه لن يعود بامكانه ان يكحل عينيه برؤيتهما من جديد، إذ يقول لـ"النهار" بصوت هادئ، وكأن صبر العالم اجتمع فيه: "ولديّ ملاكان. لم يترك أحدهما الآخر لحظة، تربيا معاً، في نفس الوقت ينامان ويستيقظان ويأكلان، مع بعضهما يلعبان حتى إن الناس يعتقدونهما توأمين، وعندما وقع احدهما في البركة، حاول الآخر انقاذه، فتوفيا في اللحظة عينها، وهما متشابكا اليدين. حين زرتهما في المستوصف، كشفت عن وجههما رأيت الجروح عينها على جسديهما، وفي الكنيسة البسا نفس البدلة، ليبقيا معاً في العالم الآخر، بعدما قرّر الله اخذهما لكونهما ملاكين".
يتابع الوالد الصابر: " كنت اخشى عليهما اذا تبلل قميص أحدهما بالماء، عندما رأيتهما وثيابهما كلها ماء، وأيديهما منخفضة الحرارة، قبلت حذائهما، قبل أن يخرجوني من الغرفة". أورد ذلك حنا قبل أن يجهش بالبكاء، ليكمل "عندما أحضروهما الى الكنيسة طلبت من الجميع أن يتركوني وإياهما ساعة، لعبت بشعرهما، لم أبكِ بل تبسمت لهما، حدثتهما للمرة الأخيرة قبل أن أحرم منهما بقية العمر".

 

كما على الأرض في السماء
في ذلك اليوم المشؤوم كانت عائلة اسكندر تستقبل المهنئين بنجاح انطونيو قبل ان يخرج الشقيقان عند نحو الساعة السادسة مساء، إذ يلفت حنا "سميته انطونيو لكونه ولد يوم عيد مار انطونيوس. لم يكن يحب الدرس، كنت أطلب منه ان يجتهد، وكان دائماً جوابه بماذا يفيد الدرس المهم أن أنجح، وكأنه كان يشعر ان أيامه على الارض لن تطول، ومع ذلك نال الشهادة بتقدير جيد. أنطونيو ملاك، لم يتفوه يوماً بكلمة بذيئة، ظريف، خفيف الدم، كنت أوقظه من النوم والعب بشعره الاشقر وخصلته البيضاء في الخلف، لم اكن اشبع من النظر اليه فالجمال الذي منحه اياه الله لا يوصف، أما ايليا فيكبر شقيقه بسنة، ولد يوم عيد الطفل استوحيت اسمه من كنيسة مار الياس ايليا الكائنة امام منزلي، وجهه رجولي، كلمته كلمة، يكره الكذب، ذكاؤه خارق، كان يدرس قبل ساعة من الامتحان وينجح بتقدير، في 1 تموز اي في عيد مار الياس رحلا ولم يعودا".

ما وراء الفاجعة!
البركة الزراعية التي أنشأها الاهالي في العام 1999 وذلك لتجميع المياه شتاءً لريّ المزروعات صيفاً، هي بحسب رئيس بلدية بتدعي ورئيس اتحاد بلديات دير الأحمر جان فخري "محمية ومسيّجة بشريط معدني بارتفاع مترين وربع المتر، أبوابها مقفلة، يحرسها شرطي بلدي ويقوم مخفر البلدة بدوريات فيها. وقد تمت صيانتها حديثاً من وزارة الطاقة التي تتابعها بشكل سنوي، كل الاحتياطات متخذة". ويضيف في اتصال مع "النهار" ان "القضية واضحة، أرادا التقاط صورة من داخل السياج فحلّت الفاجعة، انزلقت قدماهما بحكم طبيعة ارضها البلاستيكية وهما لا يجيدان السباحة".

ووفق رئيس البلدية، فقد "كشف المخفر وتأكد ان إجراءات السلامة مؤمنة، الحادثة قضاء وقدر من دون أن نعرف الى الآن الطريقة التي دخلا بها الى البحيرة".

منذ سنتين يقصد انطونيو وايليا البركة المسيّجة ليس للسباحة كونهما لا يجيدانها بل للجلوس في الغرفة المجاورة لها مع اصدقائهم حيث يجتمعون ويتبادلون أطراف الحديث، وقال حنا: "في ذلك اليوم خرجا على أساس أنهما يريدان المشي في المنطقة، لكن هبط الليل ولم يعودا وبعد جولة بحث فاشلة عليهما ابلغنا القوى الامنية التي حددت مكانهما بالاستناد الى GPS هاتف ايليا، فحضر الدفاع المدني وانتشلهما بعد منتصف الليل، وكشف الطبيب الشرعي على الجثتين وأفاد ان سبب الوفاة يعود الى الغرق... لأحرم من ولديّ وتبقى لي فتاتان، ولتبدأ رحلة معاناتنا مع الالم".

النهار