ثم ضُربت بلدة القاع ضرباتٍ موجعة بسقوط خمسة شهداء من أهلها، وجرح العديدين؛ ولم تكن مجرد ضربة يتيمة بل عدة ضربات إرهابية متتابعة في يوم واحد. كأن كل شيء كان مفتوحاً أمام هؤلاء القتلة. ثم صدر أول التصريحات من وزير الخارجية جبران باسيل، متهماً مخيمات النازحين السوريين الهاربين من إجرام حليفه، وحليف حليفه (حزب سليماني) بأنها قواعد لانطلاق هؤلاء وأكثر انها مُنتجة لمثل هؤلاء المجرمين. إذاً، المخيمات السورية هي بيت الداء.

وعليه، فيجب محاصرة هؤلاء وقمعهم وإذلالهم، أو «ترحيلهم» او كما جاء في بعض صحائف الممانعة فتح حوار مع أكبر القتلة بشار الأسد لمعالجة هذه المشكلة. (رد وزير الداخلية حاسماً بأن الارهابيين لم يأتوا من المخيمات بل من سوريا). لكن تتابع الضربات بدت وكأنها امتحان للجيش اللبناني والقوى الأمنية والدولة.

ثم كان أن اعتمد بعض أهالي البلدة ما يسمى «الأمن الذاتي»: «إذا عجز الجيش عن الدفاع عنا فنحن سنحمي أنفسنا». هذه «التطورات» الدراماتيكية المتتالية تخللها كذلك سؤال حزب إيران وتورطه في الحرب السورية وكيلاً لخامنئي!) واستجلابه هذه البليات إلى لبنان. لكن الحزب المذكور «ينفي» ذلك، فالهجوم الانتحاري اختار القاع بالقرعة. وكان يمكن ان يختار زحله، أو بسكنتا… أو صنين أو اي مكان آخر. لعبة مراهنة هي اذاً. كل هذا لتحويل الانظار عن دوره الأساسي في استجرار الارهاب إلى لبنان، فهو «أكثر وطنية» من أن يعمد إلى هذا الخيار! وحزب «لو كنت أدري» كحزب «انتظرناهم من الشرق فجاؤونا من الغرب»… النزاهة المطلقة والجهادية التي لا تقوم بأي خطوة، من دون أن تأخذ بالحسبان مصلحة بلدها وعزته وسؤدد شعبه. واذا اردنا تتبع شعارات الحزب المتقلبة على مدى مراحله «المتحولة» (طلوعاً وسقوطاً) نبدأ بالأول «ذهبنا بإيماننا المضيء إلى سوريا، لحماية «الشيعة اللبنانيين الموجودين داخل الحدود السورية».

عال! إنها شهامة القبائل الجاهلية «انصر أخاك ظالماً أو ظالماً أو غير مظلوم« ثم ترادف ذلك مع ما يشبهه من شعار وتحول شعائر ومنائر «نذهب إلى هناك لحماية مقام السيدة زينب» ثم «للدفاع عن بشار الأسد» ثم «لحماية الحدود الشمالية من داعش» ثم «طريق فلسطين تمر في الزبداني» ثم «دفاعاً عن لبنان» ثم «لمحاربة الارهاب» ثم «حرب استباقية» الخ. كل هذه الشعارات الموصوفة استخدمها حزب الله ليبرر أحياناً تورطه أو «ليؤكده» «نعم، ذهبنا إلى حلب وحمص»… وستبقى، وسنحارب ولنواجه الصهيونية!» أي صهيونية! كلها مُستدرجات باتت كوميدية بطعم الدم… وكلها محاولة لغسل ايديه من دم الصدّيقين لبنان وسوريا.

اذاً حاول الحزب خلق «منصة» جهادية، «مُؤسطرة» ينفخ في بيئته المنكوبة بها روح الحماسة والتضحية والفداء. والدليل ان السيد نصرالله استخدم كثيراً (لتثبيت «ألوهية« جهادية في سوريا)، «التكليفات الشرعية» ليقول للجميع إن هذه القضية هي قضيتنا، أي قضية «شعبنا» في لبنان (يقصد طائفته المبتلية التي جعلها شعباً: هذا من ارث الميليشيات السابقة!) ولا دخل لأحد فيها، لا جمهور الطائفة الذي صادرنا ارادته مقابل تهويمات خرافية ولا الدولة التي «نشارك» في حكوماتها وبرلمانها ولا الشعب اللبناني: اذاً لا إجماع حول المقاومة (السائبة) ولا تنسيق مع أحد. نحن مسؤولون عن كل ما نقدم عليه، ما عدا… طبعاً ولاية الفقيه. لكن، على الرغم من كل ذلك كان الحزب أحياناً وفي حالات التجلي والصوفية والنقاء «السيادي» ينفي علاقته التبعية بإيران، هكذا يرتاح ضميره «الوطني» (أواه! أواه!).

غلمان الحزب

لكن وفي معظم المناسبات كان غلمان الحزب ومرتزقته يؤكدون «انتماءهم» المطلق إلى إيران (وتبني المقاومة) بشيء من الوقاحة هنا و»الخجل» هناك» (قلت الخجل ممن ومن أين أتوا به وهو بضاعة كاسدة في ضمائرهم). يزعقون بذلك، لكي يهاجموا في المقابل، السعودية (اسرائيل لم تعد من الأولويات) ليتهموها بأنها المسؤولة عن خراب سوريا، وانها ترعى الحركات الارهابية (كداعش الذي صنع بخلطة كيميائية في مصانع النظامين السوري والإيراني) «داعش» منهم، واليهم، «حليفهم» «الضد» الاعلامي….

ثم يستدركون بأن المعارضة اللبنانية وعلى رأسها «المستقبل» هي التي تمول «داعش» «حليفهم» (كشاكر العبسي في مخيم البارد» (هل تذكرون الخط الأحمر الذي وضعه موزع التكليفات الشرعية على الجيش ليمنعه من مواجهة «فتح الإسلام»!)، لكن حسمها السيد حسن أخيراً بالفم الملآن: «نعم! نحن مالنا وعتادنا وأكلنا وشربنا وسلاحنا وقراراتنا من إيران». (وروحوا بلطوا البحر«!). فلا مقام السيدة زينب ولا «الطريق إلى فلسطين» ولا حماية لبنان… كل هذه «المصداقيات« السالفة، أنكرها السيد حسن وبدا عارياً من كل وهم او سوء تفاهم، أو شبهة، أو اتهام… أو مجرد تأويل.

سبق ان كتبتُ مرات عدة منذ سنوات حتى اليوم ان «لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي يعلن فيه العميل عمالته للخارج» ويصفقون له. (وسبق ان اعلن العديد من القوى المسيحية والاسلامية واليسارية في السابق استرهانه للخارج مالاً وسلاحاً وقراراً). فلو كان السيد حسن في بلد آخر حتى مثل قبرص أو فرنسا أو حتى في إيران وصرح بمثل هذا التصريح، لحوكم واتهم بالخيانة العظمى.

لكن هذه القضية صارت جزءاً عادياً من التفكير اليومي والممارسة الطبيعية. فإن أحداً لم يرفع صوته، أو ينتقده خصوصاً في بيئته: «أيكون زعيمنا المفدى مسترهناً لإيران وهو سيد التحرير؟ وماذا عن لبنان، ونحن والشعب؟«، لا شيء! ذلك لأن الحزب فرض ما يمكن تسميته «الاستعباد الطوعي» على بيئته والارهاب الرمزي والمادي على الاعلام! انها البديهيات اي «العمالة للخارج» و»التجسس لمصلحة الخارج»… لم تعد بديهيات بل صارت حقائق مطلقة، دامغة، ومصدر قوة وسُلّماً إلى السلطة… وممارسة ما لا تبيحه القوانين: وعندما تزول هذه البديهيات الأساسية فمن الطبيعي ان تزول بالنسبة إلى حزب الله (وقبله ميليشيات السبعينات) كل ما ينتج شعباً واحداً ودولة واحدة وانتماء واحداً فالانتماء الذي هو بديهية صار موضع سخرية! بل موضع شك! وارتياب! انتماء! انتماء إلى ماذا! إلى وطن حدوده لا تتجاوز العشرة آلاف كلم2 وأمامنا ايران تعد 80 مليوناً! كأنما العمالة للخارج صارت «استثناء» نوعياً وتكريساً لإرث يعود إلى القرن التاسع عشر…

رهان الآخرين

لكن السيد حسن نصرالله برغم اعترافه (المعروف أصلاً) يتهم الآخرين بالرهان على الخارج. ولم يرف له جفن عندما كان يعلن بعض قادة إيران «ان لبنان ولاية إيرانية!». بل ربما اغتبط الحزب كله. فالرهان ناجح حتى الآن؛ لكن عندما يخبرنا السيد حسن نصرالله ان كل ما «تمتلك يداه» من خيرات وعطايا ايران فكأنه يحدد ثمناً لكل الضحايا الذين ساقهم إلى سوريا وعادوا جثثاً إلى لبنان. ذهبوا «إيرانيين» وعادوا لبنانيين لأن كل لبناني عنده قلب بكى عليهم.

إذاً تعطينا إيران وهذا هو ثمن ما تعطينا إياه: أرواح شبابنا ودماؤهم، وكذلك تخريب هذا البلد وضرب الدولة وخدمة خامنئي والدفاع عن بشار الأسد. أما الويلات التي ترتد على بيئته وعلى البلد، فهذه «خسائر جانبية» وتضحيات ضرورية بسيطة… لكن الغريب أن الحزب، على الرغم من ذلك ما زال يدين «التفجيرات الإرهابية التي تصيب لبنان»، وآخرها في القاع، ليتهم مباشرة طبعاً «داعش» (ولا نستبعد هذا الإرهابي)، فكأن هذه التفجيرات الإرهابية تعزيز لتورطه في سوريا، وليس العكس. فـ»داعش« لم يأت من المخيمات بل من عند بشار (كما صرّح وزير الداخلية نهاد المشنوق). من عند «القائد البطل» حليف «ولي الفقيه الغضنفر».

وهنا تطرح الأسئلة، التي لا تخرج عن موضوع تورّط حزب سليماني في سوريا: لماذا «القاع»؟ ولماذا ثمانية تفجيرات متلاحقة منها ما تم بعد زيارة قائد الجيش؟ هنا تحديداً يمكن البحث في دقة تصريح الحزب باتهام «داعش«. فالذين اتهموا «داعش» بتفجير «بنك لبنان والمهجر»، هم الذين صوّبوا عليه في «القاع»: المتّهَم واحد، والمتّهِم واحد. أيهما حقيقة، وأيهما ما يجافيها؟ تفجير «بنك لبنان والمهجر» المتصل بموقف مصرف لبنان من العقوبات على الحزب، وراءه الإرهاب «الداعشي»، وكذلك القاع! علماً بأن العمل الإرهابي الأول تم توقيعه من قبل أصحابه المعروفين كرسالة. لكن أترى ما جرى في القاع، هذه البلدة الوادعة الواقعة بين مطرقة الحزب وبعض التنظيمات الإرهابية، رسالة أيضاً؟

الرسالة الأولى معروفة وجهتها، أما الثانية فإلى من مقصدها؟ وقد لفت انتباهنا عنوان إحدى الصحف الممانعة «الجيش يواجه داعش في عرسال». لماذا التركيز الآن على الجيش؟ أهو تعبير عن انتصار الحزب لتوريطه وتالياً لبنان في الحرب السورية. وهل أرسلت هذه الهدية من «قلب العروبة النابض»، ليكون دفاعه عن تلك المناطق إعلاناً بانخراطه الرسمي (إلى جانب الحزب) في المعارك التي استجلبها إلينا. وماذا عن الأخبار التي تتناقل احتمال وقوع موجة إرهابية على لبنان، مختلفة بمصادرها ودوافعها عن سابقاتها؟ وما أهدافها البعيدة؟ أتهجير أهالي بعض القرى المتاخمة للخط الفاصل بين الحزب والدواعش، تماماً كما حدث في القصير حيث ارتكب الحزب مجازر بناسها ودمّر منازلهم ونهبها وأحرقها، وهجّرهم، لكي لا يفكروا حتى بالعودة؟ أترى خطوط التقسيم التي عادت تطرق بلبال الحزب، تقسيم سوريا وما يتطلب ذلك من إيجاد مخارج لساحلها؟

لماذا يبقى الحزب في سوريا؟

والسؤال الآخر الاحتمالي، لماذا يبقى «حزب الله« في سوريا على الرغم من أن وجوده هناك لم يعد مفيداً، ولا فاعلاً، بوجود الروس، الذين خطفوا الورقة السورية من إيران؟ هل يبقى هناك كحضور رمزي، معنوي، أم أن الانتصارات التي وعدته بها إيران ما زالت في الحسبان؟ أم أنه، وبعد الخسائر المعنوية والحربية والضحايا التي كبدها لشبان بيئته (اللبنانيين رغماً عنه)، وتصدّع هذه الأخيرة، وتوجّساتها الجديدة، تمنعه من العودة بخفي حنين، وقميص يوسف، وطاسة بيلاطس!؟

وإذا كانت محاسبته في الماضي من قبل «أهله» وأهالي الضحايا، غير مسموحة، ومقبولة، ومحرمة، فإنها تنتظره هذه المرة: «ماذا فعلت بشبابنا يا سيد حسن؟ رحت لتحمي مقام السيدة زينب ففُجّر ولم يبق منه شيء. رحت تدافع عن بشار الأسد كحليف لإيران، فقصفكم هذا الأخير بالطيران. رحت لتدافع عن لبنان، فلحق بك وبنا الإرهاب.

بشّرتنا بانتصارك في القلمون… وها القلمون بعيد عن وجودك. رحت لتؤكد «إيرانية» سوريا المستقبلية، وها هي سوريا في أيدي الروس. انتظرنا أن تصارحنا بما يجري وما يصيب شبابنا وأسباب انتكاساتك، (كما فعل الحريري بعد الانتخابات البلدية في طرابلس)، فلم نسمع سوى شتائم موجهة إليه. قال الحريري إنه مسؤول عن «النكسة» الانتخابية، لكن من هو المسؤول (يا سيد المقاومة) عما آل إليه الوضع المأسوي في سوريا؟ وبدلاً من ذلك فضحتنا نحن الذين تهتف باسمك، وصرّحت بأنك إيراني محض، وأن الأموال والأسلحة والقرارات تأتيك من هناك وتنفذها. لكن أين نحن؟ وشبابنا؟ وقد خجلنا عندما رد عليك الحريري «نحن لا نسلّم قراراتنا للخارج»، بل نريد جواباً منك يا سيد المقاومة: أدماء أبنائنا هي ثمن ما نأخذه من إيران؟ وكذلك صيتنا، وما وصمنا به في العالم، من إرهاب وسوء بسببك؟…

إنها من تلك الأسئلة التي تدور في خواطر «البيئة» الحزبية والتي إذا ما بقيت في كوامن الناس، وحتى ألسنتهم، بطريقة غير علنية، فإن اليوم الذي سيخرجون بهواجسهم إلى العالم… بات قريباً! نعم!

حاولنا في هذه المقالة رسم خرائط حزب إيران الدموية في سوريا، في مراحلها، وظواهرها، وضحاياها… حتى القاع. ومع أسفنا العميق للضحايا الذين سقطوا، وما أحسسنا بهواجسهم، فيجب أن يردوا على إرهاب «داعش« (وهو صنيعة دمشق وإيران)، بما يفشل مخططاته خصوصاً وأن بعض الصحف الكانتونية بدأت تحرّض أهل القاع على اعتماد الأمن الذاتي (على غرار جمهورية حزب سليماني)، وتبث الخوف في نفوس أهلها ببثها أخباراً عن «غزوة» هي بداية تهجير، ثم احتلال، ثم مركز لـ»داعش«… ونظن أن هذا الحزب الذي لم يتمكن من «حماية» ضريح (زينب)، لم يعد قادراً على الدفاع عن نفسه، وتحوّل كداعش (حليفه) أداة تخريب، لأن في الفوضى قمة إبداعه!

نعم! قولوا لتلك الصحف وللحزب ولبشار وسليماني يا أهل القاع، إن بلدتكم لن تكون لا القصير ولا حلب ولا الزبداني! وإنها إذا رفعت شعار «الأمن الذاتي» فتعبير عن غضب آني، وأنها متمسكة بالأدوات الشرعية لتحميها، وفي رأسها الجيش اللبناني.

فليغادر «حزب الله« بسلاحه الساحات الداخلية… ويسلمها إلى الدولة! فكل مشاريعه «الهلالية» سقطت قبل نضج التين والعنب.

 

بول شاوول