كشَفت التقارير الديبلوماسية الواردة من موسكو أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أظهر تردّداً في شنّ أيّ عملية عسكرية كبيرة في سوريا في انتظار التوافق مع الأميركيين على مستقبل العملية السلمية، رغم مواقع القوة التي اكتَسبها نتيجة التفاهمات التي قادها مع كلٍّ من تل أبيب وطهران قبل أن يُعيد التواصل بقوة مع أنقرة. كيف ولماذا؟كان اللقاء بين «القيصر الروسي» ومجموعة سفرائه الى دمشق وعواصم دول الجوار وأوكرانيا وجوارها وممثلي بلاده الى الأمم المتحدة والمندوبين الدائمين الروس الذي عقد أمس الأول الخميس في موسكو، إستثنائياً بكلّ ما للكلمة من معنى.

إذ إلى كونه الأول من نوعه منذ اندلاع الأزمتين في أوكرانيا وسوريا، فإنّه شكل مناسبة لمخاطبة المعنيين بهما في الداخل والخارج إستناداً الى ما جمَعه من معطيات تضمّنتها سلسلة تقارير ديبلوماسية وما حملته من قراءات واقتراحات، الى القراءة العسكرية التي وضعتها وزارة الدفاع عن مجريات الأحداث في الدولتين وتردّداتها وما فرضته من تحدّيات عسكرية جديدة عليه خوضُها بكلّ الوسائل المتاحة.

وقالت التقارير الديبلوماسية الواردة من موسكو إنّ الإجتماع شكّل مناسبة ليكاشف فيها بوتين فريقيه العسكري والديبلوماسي بقراءة جديدة للإستحقاقات التي تواجه بلاده، ما شكل خريطة طريق للمرحلة المقبلة.

والجديد فيها أنه بات في موقع متقدّم لم تكن فيه بلاده عند اندلاع الأزمتين وقبل أن يخوض المواجهات العسكرية مباشرة في سوريا وجزيرة القرم. وبات عليه مواجهة الأزمات الدولية على أنها متكاملة ومترابطة، فما ينطبق على المخارج المقترَحة لأوكرانيا بات ينطبق على الوضع السوري.

وأشارت التقارير الى أنّ بوتين الذي استهلّ اللقاء بالحديث عن تحالفات بلاده الجديدة، توقف مطوَّلاً أمام ما حقّقه لقاءُ طهران بين وزراء الدفاع الروسي والسوري والإيراني، معتبراً أنّه جاء مكمّلاً للتفاهم «الكبير» مع تل أبيب والذي صاغه بعناية مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قبل الإنجاز الذي تحقّق بالتفاهم مع أنقرة عقب إعتذار الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عن حادث إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني من العام الماضي.

وعليه، فقد انطلق الرئيس الروسي في مقاربته لملفَّي سوريا وأوكرانيا ممّا سمّاه الموقع الجديد لبلاده في المواجهة المفتوحة التي وضعها هذه المرة مع الحلف الأطلسي مباشرة، وليس مع دول متفرّقة تشكل أحلافاً خاصة بالأزمتين، وذلك وفق معادلة دولية بوجهين:

- الأوّل خاص بأوكرانيا يقول إنّ ما تحقق في جزيرة القرم شكل تصحيحاً لخطأ تاريخي ارتكبه أسلافه الذين سبقوه الى الكرملين، عندما أهدوها الى أوكرانيا في خمسينيات القرن الماضي، ولا بدّ من إجراء عملية جراحية تكفل استعادة حقوق مهدورة عدّها البعض ضعفاً متمادياً لا يمكن إغفاله الى ما شاء الله.

- والثاني خاص بسوريا، حيث اعتبر أنّ التدخل الروسي شكل في توقيته وشكله وحجمه مناسبة لوضع حدٍّ لما سمّاه «تدخّلاً خارجياً عسكرياً غير شرعي في شؤون سوريا، والحفاظ على كيان الدولة السورية»، مؤكّداً أنه التزم المعايير الدولية عندما لبّى مضمون رسائل الدعم المطلوب من الحكومة السورية بشكل خالفته أطراف الحلف الدولي وكلّ مَن شارك في الأزمة السورية بعد تجاوزهم كلّ الأعراف الدولية.

وأمام هاتين المعادلتين، ربط بوتين بين المهمّتين في شكلهما وأهدافهما، وأصرّ على الحاجة لتصحيح الحدود في أوكرانيا ومنع تمدّد الإرهابيين في سوريا لحماية المسلمين، لافتاً الى أنه ورغم الخلاف على رؤيته للأزمة الأوكرانية مع محيطه الأوروبي ودول الحلف الدولي فقد تلاقى في الجانب السوري مع المساعي الدولية لمواجهة الإرهاب بمعزل عن الخلاف على مصير النظام السوري، مع إصراره على عدم وجود أيّ طرح يتحدث عن بديل من النظام ورئيسه في آن.

والى الرسائل التي وجّهها في المناسبة الى أطراف الأزمتين، خاطب بوتين الحلف الأطلسي وخصّص جزءاً من خطابه للإشارة الى ما يُسمّيه فقدان الحلف «المعايير المتساوية في قراءته للأزمات الدولية»، فلفت الى النيّة الواضحة بـ«زعزعة التكافؤ العسكري الذي تشكل على مدى عقود في أوروبا»، ملقياً الضوء على «تكثيف الحلف تدريباته العسكرية في المدار الحيوي الروسي وتحديداً في البحرين الأسود والبلطيق». واستطرد بما معناه: «يتّهموننا دائماً بأننا نقوم بأنشطة عسكرية ما». أين؟ في أراضينا! لكنهم يعتبرون أنشطتهم قرب حدودنا أمراً طبيعياً».

وهو ما ينطبق عليه: «ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم»، وهي معادلة مرفوضة ترجمها بالقول: «يتظاهر الناتو اليوم بتوجهاته المناهضة لروسيا عمداً، وهو لا يكتفي بالبحث عن تبريرات لشرعيته ونفعية وجوده فحسب، بل يتّخذ خطوات عملية تحمل طابع المواجهة تجاهنا».

والى هذه الملاحظات التي استنتجتها القراءة الأوّلية للقاء السفراء، توقفت التقارير الديبلوماسية أمام ملاحظات أخرى عدة أبرزها إشارة بوتين إلى أنّ الأزمة السورية طويلة الأمد بقوله «إنّ التسوية النهائية للنزاع السوري ما زالت هدفاً بعيد المنال»، مرفقاً ملاحظته باستعداد بلاده لتشكيل «جبهة واسعة النطاق لمناهضة للإرهاب... والمخاطر الأخرى بصورة فعالة»، ما اعتُبر تردّداً عن الإقدام على أيّ عمل عسكري الى حين التفاهم مع الأميركيين على شكله ومضمونه، وهو ما ستُظهره المفاوضات مع واشنطن، وجديدها أنها بطلب اميركي هذه المرة.

جورج شاهين