لم ينم اهالي بلدة القاع على حرير، منذ بدء الاحداث في سورية. يعلم هؤلاء انّ مصيرهم تحدد بفعل أحكام الجغرافيا، وبانّ الخطر حتمي طالما انّهم لا يبعدون سوى امتار قليلة عن "الدواعش". بالامس، ضرب الارهاب المنطقة مجدداً، لم يكن الاستهداف الاول، لأكثر من اعتبار، ربطاً بما يتعلق بوضعية القاع كونها تمثل الشريط الاسخن الحدودي بعد عرسال، كما تشكل اضافة الى عرسال ورأس بعلبك والفاكهة، مربعًا جرديًا سيبقى مفتوحاً على احتمالات التفجير، في ظل عدم احكام اغلاق الطريق الحدودي بين تلك المناطق والارهابيين.

حزينة هي بلدة القاع، كل التحذيرات التي أطلقت عن امكانية استهدافها مجدداً، لم تعفها من وقوع شهداء، لا ذنب لهم سوى انّهم سكان قرى المواجهة حيث يتربص الارهاب على بعد امتار. ولكنّها البلدة التي استطاعت ان تفدي بشجاعة ابنائها، لبنان من خمس عمليات تفجير كانت تُعد لها، فثبتت كل الاحتمالات وفق ارتباطها برسم معالم استمرار المعركة في سورية، حيث كل فرضيات الاقتحام والتسلل كانت مرتقبة، بعدما نفذ الارهابيون سابقاً أكثر من محاولة استطلاع بالنار، اضافة الى اشتباكات عنيفة في جرد القاع بعد محاولة الارهابيين انتزاع مواقع لـ"حزب الله"، عبر هجومات مباغتة.
الاستثمثار بالسياسة
بالامس، لف السواد المنطقة، التي لم يشأ أهلها منذ اليوم الاول لبداية الاحداث تصنيف انفسهم "غرباء" عن المحيط، فما يصيبهم يصيب كل البقاع ولبنان. يعلم السكان تماماً انّه لولا الاجراءات العسكرية التي تتخذها القوى الامنية على الحدود وتواجد "حزب الله" في الجرد، لكان عدد الارهابيين قد زاد اضعافاً، فهؤلاء ليسوا بعابري طريق، كانوا ينتظرون "احداً ما او سيارة تقلهم الى مكان آخر" حسب قول رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع. يرفض الاهالي المزايدة بالدماء والاستثمار بالسياسة، فالقاع كما رأس بعلبك والفاكهة تبقى الملاذ الذي يبحث عنه الارهابيون كلما ضاق الخناق عليهم ناحية الجرد، فتجدهم يستميتون في البحث عن المناطق الآمنة او اختراق بيئات جديدة، عادة ما يعتبرونها الخاصرة الاضعف نظراً لعدم تواجد "حزب الله" فيها بشكل علني. الى ذلك، تمثل البلدة المساحة الاطول مع الحدود السورية من جهة البقاع الشمالي، ما يعني انّها تمثل الصف الامامي للدفاع، نظراً الى بعد الجرد المستهدف مسافة 2 كلم عن القرية. ويشكل جرد القاع اضافة الى جردي رأس بعلبك وعرسال، مثلث خط دفاع عن معظم بلدات وقرى قضاء الهرمل، ما يكسب البلدة خصوصية اضافية، عدا عن انّه يكشف على معظم المنطقة المقابلة من الجهة اللبنانية، واي خرق للقاع يعني استهدافاً كاملاً للمنطقة.
مشاريع القاع
ولعلّ النقطة الابرز، تتمثل في ما أشار اليه رئيس البلدية بشير مطر، عندما تحدث عن "مشاريع القاع" وخطورة انّ تصبح كما مخيم نهر البارد، مشيراً الى حتمية ان تقوم "الدولة اللبنانية بعناية فائقة للمشاريع". لا غلو في توصيف المسألة بالنسبة الى مطر، الذي يعتبر انّ الوضع مرشح الى ان يكون مماثلاً لما حصل في نهر البارد اذا استمرت الاحداث الامنية على هذه الشاكلة، "والاّ سنكون امام مخيم متفلت من كل الضوابط، بحيث لن يكون بامكاننا القيام بحركات عسكرية بشكل متواصل"، يؤكد مطر في حديث لـ"البلد". ويتابع لا يمكن ان نستمر هكذا، والمطلوب انّ يكون هناك دولة وقانون وقضاء، فعلى الرغم من كل التحذيرات التي أطلقناها وكل ما ورد في الاعلام عن امكانية استهداف القاع الاّ ان ذلك لم يؤدِ الى ضبط الوضع المتلفت، وخصوصاً في مشاريع القاع، نظراً الى انّ الحدود الاخرى مقفلة باستثناء التفلت الامني الحاصل على طول مساحة المشاريع". وعن الخصوصية التي تتمتع بها المنطقة، كون سكانها من الطائفة المسيحية، واعتبارها النقطة الاضعف بين بقية المناطق التي تشكل خط مواجهة بوجه التكفيريين، يجزم مطر، "طويلة على رقبتهم ان يستهدفونا لاننا مسيحيون".
اربعة تفجيرات
وكان ثلاثة انتحاريين من تنظيم "داعش" تمكنوا من التسلل الى بلدة القاع فجراً، وتفجير احزمتهم الناسفة. وكان الاول قد فجر حزامه أمام منزل احد المواطنين، تلاه اقدام آخرَين على تفجير نفسيهما بعد تجمع المواطنين، ما ادى الى استشهاد عدد منهم وجرح آخرين، كما تم تفجير عبوة ناسفة على الطريق بين جمارك القاع والكنيسة قبل وقوع التفجيرات الثلاثة.
وفي القراءة العسكرية للحادثة، يعتبر رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات العميد الركن الدكتور هشام جابر، انّ السيناريو الامني لا يزال قائماً، فهذه المجموعات المسلحة لا تزال تقاتل بالسلاح المتطور وتحاول الاختراق دائماً وسط البحث الدائم عن اللوجستيات. وفي حديث لـ"البلد"، يشير جابر الى انّ الارهابيين يبحثون دائماً عن الخاصرة الرخوة بعيداً من القرى الشيعية، "وخصوصاً مع عدم امكانية ان يكون هناك معركة رقم اثنين في عرسال التي لم تعد بيئة حاضنة. وهؤلاء يريدون دائماً تنفيذ التفجيرات حيث لبنان لا يزال بالنسبة اليهم ساحة جهاد". الى ذلك، فانّ التنظيم لا ينتظر التطورات القائمة ليبني على الشيء مقتضاه، بل "يتحرك على ضوء ما يحصل، فاذا كانت الضاحية عصية عليهم، فهناك الكثير من المناطق التي سيستهدفونها، واليوم يمكن القول انّ لبنان نجا من خمسة تفجيرات كانت معدة له في اكثر من منطقة".
ضبط الحدود
امّا عن الجهة التي تسلل منها الانتحاريون، فيستبعد جابر انّ يكونوا قد قدموا من سورية: فامّا انهم تسللوا من جرود عرسال عبر الاودية والسهول، وهذا أمر مستبعد. وامّا انّهم خرجوا من بين النازحين المتواجدين في مشاريع القاع، وهو الاحتمال الاكثر منطقياً. وهنا يُفتح باب النقاش واسعاً حول حتمية ضبط مسألة النازحين في قرى البقاع الشمالي، "يجب ان يكون هناك عمل جاد في هذا الاطار، أقلّه للتخفيف من حجم الاضرار التي يمكن ان تترتب على لبنان، ويأتي ذلك بالدرجة الاولى من خلال اقامة مخيمات تضبط وجود النازحين في اماكن خاصة". ويختم جابر معتبراً انّ الاجهزة الامنية تنتصر على المجموعات المسلحة "بالنقاط"، ولكننا لمّا نزل بحاجة الى "الضربة القاضية"، وهذا ما ليس مستبعداً "في ظل وجود شعب يرفض الارهاب، واجهزة امنية كفوءة،، ولكنّ المسألة تبقى بحاجة الى قرار سياسي، اضافة الى ضرورة التنسيق مع الجيش السوري الذي لا يمكن تجاهاله في مسألة ضبط الحدود".