منذ العام 1951، قامت الفكرة الأوروبية على مسار رسمه وزير الخارجية روبرت شومان ويقوم على التالي: شراكة وتكامل اقتصادي تدريجي في قطاعات معينة، ينطلق بعدها ليشمل كل الاقتصاد ومن ثم ترى الدول نفسها مضطرة أن تتعاون وان تتكامل سياسيا قبل أن تصل إلى نموذج شبيه بالولايات المتحدة الأميركية.

لذلك طرح شومان بدء التكامل في قطاعي الفحم والصلب : التكامل الاقتصادي يلزم الدول بالتعاون في هذين القطاعين سيقضي على التنافس الاقتصادي وعلى سباق التسلح ويطوي صفحة الحروب الى غير رجعة.


انطلق البناء الأوروبي كمسار تفاوضي بين الحكومات حيث لم يكن للمواطنين اي دور يذكر. ربما كان هذا الأمر مفهوما بالنسبة لدول خرجت للتو من الحرب العالمية والجروح لم نندمل بعد. وحين كان الأمر يقتصر على التعاون الاقتصادي في رخاء ما بعد الحرب، لم يكترث المواطنون لعدم اشراكهم بل وجدوا في هذه التجربة بديلا عن ويلات الحروب ومجالا للتعاون المشترك.


ظل شارل ديغول يرفض انضمام بريطانيا إلى المجموعة الأوروبية معتبرا أنها ستكون رأس جسر للولايات المتحدة في عز الحرب الباردة، في حين أن توجهه كان يفترض الحفاظ على مسافة معينة من واشنطن عبر تكريس الثنائية الفرنسية- الألمانية كمحرك للبناء الأوروبي.


لم تكن بريطانيا ترغب بأن تنغمس في المشروع الأوروبي المستقل وفضلت على الدوام أن تلعب في الباحة الخلفية. كانت لندن على الدوام ذلك الطفل المجتهد والمشاغب ، العايز والمستغني. وقفت تاتشر بصلابة في وجه سياسة بروكسل قبل اتمام بناء السوق الموحدة وحصلت على امتيازات وتنازلات هامة. رفضت باكرا قبول العملة الموحدة ما سيخلق لاحقا هذه الازدواجية بين دول الاتحاد الأوروبي من جهة، ومنطقة اليورو من جهة أخرى. كذلك الأمر بالنسبة لاتفاقية شينغن. بريطانيا فتحت الباب باكرا أمام بناء غير منسجم للاتحاد الأوروبي. 


ففي العام 1992 ومع إتمام بناء السوق الموحدة وانتهاء الحرب الباردة دخلت عملية البناء الأوربي في مسار جديد: الأول الانتقال من المجموعة الأوروبية الاقتصادية إلى الاتحاد الأوروبي كوحدة سياسية واقتصادية. والثاني، اتخاذ القرار بفتح باب الانضمام لدول أوروبا الشرقية. لقد بدل هذا التوجه وجه البناء الأوروبي من كونه مشروع أوروبي غربي بسن دول متقاربة اقتصاديا إلى حد ما حيث توازن فيه الثنائية الفرنسية- الالمانية، إلى مشروع أوروبي بين دول لا تمتلك نفس التطور الاقتصادي كما أنه لم يعد لفرنسا وللدول اللاتينية الأخرى( إيطاليا، اسبانيا، بلجيكا والبرتغال) ومالت الكفة بشكل نهائي لصالح ألمانيا ودول وسط وشرق القارة منهية حصرية البناء الغربي للاتحاد.
ومع بدء مسار انضمام هذه الدول المعسكر الاشتراكي, أرسلت المفوضية الاوروبية أفضل خبرائها من أجل تحضير اقتصاديات هذه الدول للدخول الى السوق الاوروبي الموحد. المفوضية الاوروبية قدمت طروحاتىها الاقتصادية على على أنها حقيقة حسابية ولا تحتمل التأويل و"باعت" رؤيتها الاقتصادية لهذه الدول بصفتها علماً لا يخطئ وبأنها محايدة ايديولوجيّاً واجتماعياً. كانوا يلتقون بموظفي هذه الدول كانوا يقولون لهم ( طبعا مع بعض اللباقة) : لا تفكّروا ولا تخافوا, نحن نمتلك الحقيقة العلمية الاقتصادية، انتم خرجتم للتو من براثن نظام خاطئ ونحن هنا لنعلّمكم ولنخبركم ما هي الحقيقة المجردة ولا شيء غير الحقيقة.


وبالترافق مرحلة التحضير لانضمام دول شرق ووسط القارة العشرة، تم طرح مشروع طموح جدا إلا وهو دستور الاتحاد الأوروبي للمرحلة المقبلة. في الحقيقة لم يكن الأمر كتابة دستور جديد بل كان معاهدة دولية تحمل اسم الدستور الأوروبي ( تم استعمال تعبير دستور لأوروبا وليس للاتحاد الأوروبي). وكانت النكسة الكبرى والأخطر للبناء الأوروبي مع رفض فرنسا في نيسان 2005 لهذا المشروع وإعلان موته. لقد فضح هذا الأمر الالتباس الكبير بين الاتحاد الأوروبي والمواطنين : لم يؤخذ رأي الناس في المشروع الأوروبي إلا فيما ندر، ويوم حدث هذا الأمر رفضت دولة مؤسسة كفرنسا هذا المشروع الذي كلن سيعطي دفعا كبيرا لأوروبا السياسية. اليسار يريد من هذه الأوروبا الليبرالية أن تكون أكثر اجتماعية واليمين المتطرف يريد استعادة السيادة الوطنية. 


في الحقيقة، في العام 2005 لم يكن أحد يتوقع هذا الرفض الفرنسي بل كانت العيون شاخصة كلها على بريطانيا التي لن يتم التساهل معها في مال رفضت المشروع ( لا ننسى كذلك نتائج الانقسام الأوروبي حول حرب الخليج 2003). تنفس بريطانيا الصعداء وتم دفن مشروع الدستور الأوروبي بأياد فرنكوفونية لا انغلوساكسونية.


اليوم حين ننظر إلى الوراء، يتبين أن الاتحاد الأوروبي ككتلة سياسية لم يتجاوز صدمة سقوط الدستور قبل عشر سنوات. لقد كانت الإشارة الأولى إلى تزعزع المثل الأوروبي ideal européen كنهاية سعيدة حتمية لتاريخ القارة بحيث لم يبقى لدول القارة إلا الحلم وانتظار الدخول إلى جنة الاتحاد.

الفجوة كانت كبيرة ولم يكن أحد يتوقعها ويكفي النظر إلى تدني مستويات المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي للتأكد من هذا الطلاق : الناس تلوم وتنتظر الكثير من بروكسل لكنها تمتنع عن المشاركة في الانتخابات ربما لشعورها أن حكومة التقنوقراط في مبنى شارلمان في بروكسل لا تستمد شرعيتها من المواطنين. 


مع انكسار المثل، يبدو المسار كأنه قصة انهيار معلن : أزمة اقتصادية عالمية، أزمة مالية لليورو، اضطرابات اجتماعية داخلية، انهيار التصنيع ما خلا ألمانيا، صعود لليمين المتطرف، خوف من مشهد اللاجئين.
الموضوع ليس بالقانون أو بالاقتصاد بل بالاحساس العام.

الحقيقة الحقيقية لا قيمة لها بعد الآن : لا قيمة للحقيقة العلمية التي تؤكد أن اليورو ليس أساس الأزمة الاقتصادية أن كانت الناس تشعر بذلك. لا قيمة للحقيقة التي تقول إن السيادة على الحدود الخارجية ومسألة الهجرة هي اختصاص داخلي للدول وليس للاتحاد من صلاحية جدية في الأمر، طالما الناس تشعر بذلك. لا قيمة للخيارات الاقتصادية للحكومات الوطنية طالما تشعر الناس ان مؤسسات الاتحاد مسؤولة عن أزماتها الاجتماعية.


اليوم انتهت مرحلة وبدأت اخرى. المادة 50 من اتفاقية الاتحاد الأوروبي تنظم مسألة الخروج من الاتحاد. قد تمتد هذه الفترة حتى 24 شهرا. لن تخرج بريطانيا من الفضاء الاقتصادي الأوروبي بشكل نهائي.

ربما تتموضع في مكان شبيه بسويسرا والنروج. قبل العام 2009، لم يفكر أحد وطوال عقود طويلة من التفكير حتى باماكنية خروج أحد الدول من الاتحاد. كان يبدو الانضمام وكأنه الحل النهائي للعلاقات الداخلية مع المكونات العرقية وكذلك حلا نهائية للعلاقات مع دوزل الجوار.

الداخل مولود من جديد ولا تفكير في الخروج. عندما اضيفت هذه المادة في ا مسودة اتفاقية الدستور ومن ثم في اتفاقية لشبونة أريد لها أن تكون آلية نظرية لسد فراغ قانوني ليس إلا وتلويح ترهيبي نظري للدول المنضمة كي تجري الاصلاحات الليبرالية المطلوبة منها. 


الخطورة اليوم هي في انهيار المثل الأوروبي وغياب البدائل. هذه القارة التي دخلت في مسار وحدوي بين معظم دولها كي تنهي قرونا من الحروب الدموية، تدخل للمرة الأولى في مسار معاكس.


ربما كان شارل ديغول على حق في أن بريطانيا عبء على مسار البناء الاوروبي، ربما في حال لم تكر سبحة الخروج قد يشكل خروج بريطانيا فرصة لاعادة بناء اوروبا السياسية.

أما اليوم، يحق للجميع أن يقلق من انسحاب بريطانيا. نحن نشهد نهاية نهاية التاريخ الأوروبي.

( نقلًا عن الفيسبوك- الدكتور علي مراد )