كلّ من تابع إدارة وزير التربية والتعليم العالي الياس بوصعب الإعلامية للامتحانات الرسمية، كان ينتظر المشهد الأخير من السيناريو الذي سار فيه، تصاعدياً، وفق حبكة محكمة تؤدي إلى نهاية سعيدة: يتصل الوزير مباشرة على الهواء بالتلميذة التي حازت المرتبة الأولى في امتحانات الشهادة المتوسطة يارا الزغبي.  

وفي "رمية من غير رام"، تكون الزغبي ابنة مدرسة رسمية في قرية شمالية نائية، لتزيد جرعة الدراما في هذه النهاية التي تتيح للوزير التأكيد على الثقة بالمدرسة الرسمية.  

يصعب القول إن بوصعب فاجأ اللبنانيين بالاتصال، وهم الذين اعتادوا على مشاهد الاستعراض ترافق كلّ خطوة يقوم بها منذ بدء الامتحانات الرسمية، وتبدو مرشحة للاستمرار طيلة فترة إصدار النتائج.

فقد عقد أمس المؤتمر الصحافي الخامس منذ الإعلان عن انطلاق الامتحانات الرسمية.

كان يمكن القول إنه يحقق رقماً قياسياً، لولا أنه تجاوز ذلك إلى كونه يسجّل سابقة من خلال عقد مؤتمر صحافي لإطلاق امتحانات، وهو ما لم تشهده وزارة التربية يوماً بحسب المتابعين.

كما سجّل سابقة في عدد صور "السيلفي" التي التقطها مع التلامذة في قاعات امتحاناتهم (ومع أهاليهم خارجها)، خلال الجولات شبه اليومية التي كان يقوم بها.

عدا عن أدائه خلال هذه الجولات، إذ كان يتوقف قرب كلّ منهم متأملاً ورقته، ما يشعر المشاهد بأنه أمام أستاذ حريص على حسن إجابة تلامذته، وليس وزيراً يقوم بجولة روتينية.

وفي سلوك أبوي، لبّى طلب التلميذ عمر دندن، ذي الاحتياجات الخاصة، الحضور إلى المركز الذي يمتحن فيه.  

العلاقة الطيبة مع التلاميذ تجاوزت التحفيز إلى المشاركة في هموم الدراسة. فأسهب في التحدّث عن صعوبة اللغة العربية في برنامج "هيدا حكي" على شاشة "أم تي في"، وبادر إلى إلغاء محاور من مادة الفلسفة في الامتحان، ليضيف كلّ ذلك إلى الإنجاز الأهم الذي يحفظه تلامذة لبنان له: "الإفادات" التي منحهم إياها في العام 2014.  

هذا الأداء، الذي أكسب بوصعب شعبية واسعة (في ظلّ انتقادات خجولة من تربويين)، ليس عفوياً. بل هو مدروس ويسير وفق سياسة اتصالية واضحة بات الوزير يتقن مفاصلها.

هو ليس من الأشخاص الذي يمكن إطلاق أحكام عامة عليهم كالتي نسمعها غالباً عن سياسي طليق اللسان أمام الكاميرا، أو وزير يحسن "قطف" المناسبات، أو نائب يقيم علاقات جيّدة مع الصحافيين، إلخ.

هذه مهارات، وعلاقات، تفيد بالطبع. لكن ما يمارسه بوصعب هو حملات إعلامية متواصلة، تمهيداً لتحقيق الفتح: بناء سمعة واحتلال مكانة في وجدان اللبنانيين.

ويمكن القول إنه يحقق هذين الهدفين، أقلّه في أوساط جيل فتيّ لن ينساه بعدما طبع مرحلة مفصلية في حياتهم.  

يمتلك بوصعب ثلاثة عناصر تشكل أساس السياسة الاتصالية الناجحة: المبادرة، التفاعل، الجهوزية الدائمة للتحرّك. وهذه العناصر جعلته يبرز في وزارة لم تحظ يوماً باهتمام إعلامي مماثل لما نشهده اليوم.

هو مبادر، إذ حوّل الاستحقاق السنوي العادي الذي تشهده كلّ الدول (امتحانات رسمية) إلى حدث إعلامي أوّل.

فرض أجندته على وسائل الإعلام المرئية (التي يفضّلها)، فباتت تلاحق أموراً كانت سابقاً مجال اهتمام الصحافة المكتوبة: خطة الامتحانات، مناهجها، مجرياتها، شبكات الغش التي تكتشف فيها، نتائجها.

وهو جاهز دائماً للتحرّك، تجده في كلّ مكان حتى عندما تعتقد أن لا جدوى من حضوره. وهو متفاعل، يستمع إلى ما يقال عنه، ويردّ.

يلبي طلب تلميذ هنا، ويتحدى وزيرا هناك، وبينهما يبحث عن محضر وزاري موضع سجال.   لكن بوصعب ليس السياسي الوحيد الذي يمتلك العناصر المذكورة أعلاه وإن كان يستخدمها على أفضل وجه. أبرز ما يختلف به عن آخرين يمتلكون مهاراته الإعلامية، هو أنه وجه جديد على الساحة السياسية اللبنانية.

أمر جعل الوزير المغترب، الذي تعرّف إليه اللبنانيون زوجاً للفنانة جوليا، يصبّ في مصلحته. لن يحكم عليه الشعب بوصفه جزءاً من الطبقة السياسية الملوّثة.

وهو لم يسقط عليهم بالباراشوت، بل دخل حياتهم من باب الانتخابات البلدية، محققاً الامتياز الأهم الذي يطمح إليه كل سياسي صاعد: الشرعية الانتخابية.

وعندما اختار الطرف السياسي الذي يمكن أن يحقق له طموحه، تبنى خطابه بجدية، بعدما أعاد تطويعه وفق لغته الخاصة. لغة تتكئ على إعداد للملفات في مواجهة خطاب ارتجالي، وترتدي الحوار ستاراً يخفي تشبثاً بالرأي لا يعرفه إلا الإعلاميون الذين تعرّضوا لردود فعل حادة منه.  

هي صورة لا يعرفها كثيرون يجدونه سريع البديهة، يجيب غالباً بذكاء على أسئلة الإعلاميين، فيرفض مثلاً أن يدلي بتصريح في قلم الاقتراع "لأن الناس ينتظرون دورهم لكي ينتخبوا" على رغم إغراء الهواء المفتوح.

وحين يجلس خلف الكاميرا، يدير الدفة لصالحه معلناً عن المحاور التي يرغب هو في تناولها "لا أريدها سياسية فقط، بل تربوية أيضاً".

ويربك إعلامية (تدرّب سياسيين على الظهور الإعلامي) حين يطلب منها أمراً بديهياً، وهو تقديم دليل على الاتهامات التي تقولها بحق فريقه السياسي، فلا تجد ما تجيبه به إلا عبارة "شو بجيبو من جيبتي"... ليصل في إدارته اللعبة، أمس، إلى إرسال قناة تلفزيونية إلى منزل التلميذة المتفوقة، لتنقل مباشرة اتصاله بها على الهواء.  

وهذا ليس كلّ شيء. يهتم بو صعب بتفاصيل لا يلتفت إليها كثيرون من زملائه. "ويكيبيديا" تقدّم معلومات تفصيلية عنه تدلّ ّإلى أن كاتبها ليس مجرد هاو أحبّ إثراء الموسوعة الالكترونية الأكثر انتشاراً.

صفحته على "تويتر" ترصد كلّ مكان يرد فيه اسمه، فيما تزيّنها صورة جميلة لتلامذة مدرسة صغار يرفعون الأعلام اللبنانية. المكان الوحيد الذي نجد فيه صورة جوليا، هو على "فايسبوك"، الذي يقدمّه رباً لعائلة من زوجة وولدين.  

هكذا، استطاع بوصعب أن يبني بنفسه، وفي سنوات قليلة، صورته السياسية كما يريدها، مراهناً بشكل كبير على الجيل المقبل ليردّ له التحية.  

(الأخبار)