رسائل كثيرة ترتبت على نتائج الانتخابات البلدية في لبنان، التي حملت مضمونًا سياسيًا بدا تعويضًا عن تعطيل السياسة في البلد لسنوات!
مع كثير من التعميم، يتأكد عبر هذه النتائج أن الموارنة ليسوا شيعة سياسيًا، بمعنى استحالة استنساخ الثنائي، حزب الله - حركة أمل في وسطهم وتسليمه زمام الطائفة قولاً واحدًا، وأن التعدد الذي لا يزال يطبع الحياة السياسية والاجتماعية والنخبوية المسيحية أعقد من أن تتفوق عليه إغراءات التمثيل الأحادي أو الثنائي، أو إعادة «عسكرة» المجتمع المسيحي.
لم ينجح ثنائي سمير جعجع - ميشال عون في تحويل التفاهم الناشئ بينهما إلى حالة سياسية تكتسح المشهد المسيحي وتفرض نفسها «صاحبة الحق الحصري» في بت ملف رئاسة الجمهورية، بوصفه ملفًا مسيحيًا أولاً ولبنانيًا ثانيًا. وفي بيروت، حيث لم يتحمس الثنائي المسيحي للانتخاب، على اعتبار أنها ساحة يقررها الصوت السني، وغير ملائمة بالتالي لاستعراض قوة الثنائي، لم يترجَم ذلك قطعًا لشهية مسيحيي المدينة الذين شاركوا في التصويت للائحة «بيروت مدينتي».
اللائحة المدنية التي حققت نتائج كبيرة رغم عدم فوزها، تشكلت بمسيحييها ومسلميها من النخبة المدنية اللبنانية الحديثة التي بمعظمها من صميم جمهور وناشطي انتفاضة 14 آذار! وهذه نخبة مؤثرة لم ينجح الثنائي في جرها إلى سياسات الهوية المسيحية أو في تعطيل عناوينها المدنية بعنوان «أمن المجتمع المسيحي»! ويتأكد عبر نتائج الانتخابات البلدية نفسها أن السنة ليسوا دروزًا بمعنى يبرمون حيث يبرم الزعيم أو «عامود السماء» كما توصف الزعامة الجنبلاطية تاريخيًا!
فالواقعية السياسية الحادة التي ميزت تجربة وليد جنبلاط بالتحديد، (والده كان نقيضه في لاواقعيته السياسية)، وانعطافاته السريعة التي تبلغ حدود التناقض في الموقف السياسي، لم تجبره مرة على دفع أثمان درزية، في حين أن الواقعية السياسية لسعد الحريري، وتهيبه الدائم من أن يؤدي رفع حدة الاشتباك السياسي إلى الذهاب نحو حريق كبير في لبنان، لا شك كانت في صميم الأثمان المدفوعة سياسيًا في بيروت حيث ربح الانتخابات، وفي طرابلس حيث خسرها!
في صميم تجربتي الزعيمين مفارقة لا بد من التوقف عندها. بعد اغتيال والده في 16 مارس (آذار) 1977، ذهب وليد جنبلاط إلى سوريا وأخذ منها غطاءً لوراثة أبيه، ترجمه حافظ الأسد دعمًا سياسيًا وعسكريًا للزعيم الدرزي اليافع، بلغ ذروته في حرب الجبل 1983، أحد أكثر فصول الحرب الأهلية اللبنانية دموية، ومعمودية الدم التي كرست مشروعية وليد جنبلاط زعيمًا.
سعد الحريري ورث أباه محمولاً على ظهر واحدة من أشرف الانتفاضات الشعبية في تاريخ لبنان في الرابع عشر من مارس (آذار) 2005. وحين اضطرته الظروف العربية، وتحديدًا السعودية، للذهاب إلى سوريا كجزء من محاولة تسوية عربية مع سوريا قادها المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز، لم تسعفه التسوية في حماية موقعه، وأسقطت حكومته من قبل حلفاء سوريا وأدوات إيران.
لا شك أن ظروف التسويتين مختلفة، لجهة مناخهما وتوقيتهما ومآلاتهما. لكن الدرس المستفاد بسيط. ذهب وليد جنبلاط للتسوية مع حافظ الأسد فحكم لبنان أو كان شريكًا في حكمه. ذهب سعد الحريري إلى التسوية مع بشار الأسد فأخرج من لبنان لخمس سنوات يدفع ثمنها اليوم بشكل أو بآخر!
وما ينطبق على سوريا ينطبق على التسوية مع حزب الله. تسويات بلا مضمون حقيقي، يستطيع حزب الله حماية نفسه من نتائجها ويدفع ثمنها الحريري وحيدًا.
وبالتالي فإن أخطر ما في نتائج طرابلس، ليست أنها تصويت ضد منطق التسوية، بل في إعلان الناس اليأس التام من احتمال التسوية مع حزب الله بعد أن انتهى أصلاً احتمال التسوية مع سوريا. بل بعد أن انتهت سوريا نفسها. أما الخطورة فلأن البديل عن التسوية هو المواجهة التي يصعب أن تبقى في الإطار السياسي في ظل فائض عسكرة بيئة حزب الله، التي باتت تحفز خصومها على عسكرة مقابلة لكنها ستظل غير متكافئة! ما قالته البيئتان المسيحية والسنية إن ثوابت المشروع السيادي لا تزال بألف خير. جذره الحداثي في نخبة «بيروت مدينتي» قال إن المراد لا يزال دولة ناجحة تتسع لنجاح أبنائها وترفده وتعلي مراتبه. وعصبه المواجه قال في طرابلس إنه ضد التسويات التي لا تنتج تسوية تصب في النهاية في إعادة إنتاج الدولة. حداثة الجمهور السيادي بخير. وعصبه أيضًا.
هذا الجمهور يحتاج إلى من يعدل سياساته لتمثيله، مسيحيًا وإسلاميًا. يحتاج إلى من يعود معه إلى الجذور.

 

  الشرق الأوسط : نديم قطيش