يلتقي جمال الساحلي وسامي البكوش وصالح الرحموني يوميا على الساعة التاسعة صباحا في “مقهى الثورة” بشارع ابن خلدون، أكثر الشوارع حركية في حي التضامن الشعبي، وبمجرد جلوسهم يسارع النادل “العم علي” بتقديم فنجان القهوة والنارجيلة، دون أن ينتظر طلبهم، فهم من زبائنه الأوفياء الذين يقضون كامل يومهم يلعبون الورق، ومع الساعة العاشرة يكون المقهى قد اكتظ بالعشرات من شباب الحي الذي فتكت به البطالة وأنهكه الإحباط.

ولا يغادر ثلاثتهم المقهى إلا على الساعة السابعة مساء عائدين إلى منازلهم القصديرية والطينية شأنهم في ذلك شأن الآلاف من الشباب الذي جعل من المقاهي قبورا لدفن أحلامه ومتنفسا للتأفف والشكوى من التهميش وانسداد الآفاق.

 

معقل الموت البطيء

 

يعتبر حي التضامن الشعبي الواقع على المشارف الشمالية الغربية لتونس العاصمة التي يبتعد عنها قرابة 10 كيلومترات أكبر الأحياء الشعبية المتناثرة حول المدينة وأكثرها كثافة سكانية، إذ يضمّ أكثر من 500 ألف نسمة في مساحة لا تتسع لـ 200 ألف نسمة، ما جعل من الحي “مخيما ضيقا وخانقا”.

ولهذا الحي خصوصية اجتماعية، حيث تقطنه عائلات فقيرة نزحت إليه خلال الثمانينات من القرن الماضي قادمة من قرى وأرياف محافظات الشمال الغربي المحروم مثل محافظة سليانة والكاف وجندوبة وباجة طمعا في مستوى عيش أفضل بعد أن عصفت التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها تونس خلال السبعينات من القرن الماضي بمكانة المجتمع الزراعي وقدرته في المحافظة على دوره الاقتصادي والاجتماعي نتيجة سياسة الاقتصاد المتوحش.

لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد زج النازحون بأنفسهم في حي أشد فقرا وبؤسا من الأرياف؛ إذ يفتقد إلى أبسط مقومات العيش الكريم وتفتك البطالة بأكثر من 70 بالمئة من الشباب ذكورا وإناثا، حاصلين على شهائد جامعية عليا وأميين. ويفوق عدد العاطلين ربع سكان الحي إذ يناهز 180 ألف عاطل.

ويبدو المشهد العام في الحي فوضى عارمة أججتها الاستماتة في البحث عن موارد الرزق وما يسد رمق 500 ألف جائع، حيث تنتشر على أطراف الشوارع الضيقة والوسخة مختلف أنواع المحلات التجارية دون مراعاة للصحة أو القواعد العمرانية؛ فبجانب ورشة الحدادة محل للجزارة بجانبه صيدلية وبمحاذاتها محل لبيع المرطبات التي لا تخضع للمراقبة، ثم تتناثر محلات أخرى لبيع الأكلة الخفيفة وأكشاك بيع السجائر المهربة وورشات إصلاح السيارات ودكاكين لبيع العطورات الشعبية إضافة إلى عربات متجولة لبيع الفواكه والخضار والحلويات التي لا تحلو إلا لصغار أهالي الحي.

وينتشر في حي التضامن عدد كبير من المقاهي الشعبية يمثل الشباب 80 في المئة من زبائنها الثابتين يركنون إليها كامل اليوم للعب الورق في مشهد لا يشي إلا بالموت البطيء الذي ينخر طاقات بل وحتى كفاءات كان يمكن أن يستفيد منها مجتمع تعد موارده البشرية ثروته الحقيقية.

 

تهميش اجتماعي وسياسي

 

ما يعمق مأساة الشباب التونسي هو حالة التهميش الاجتماعي والسياسي التي تزايدت حدتها إثر انتفاضة يناير 2011 وبدت هذه الفئة الخاسر الأول من انتفاضة قادها الشباب مطالبا بالشغل والعيش الكريم.

فقد أظهرت دراسة المرصد الوطني للشباب – وهو مرصد شبه حكومي مستقل – أن 93 بالمئة من الشباب التونسي يشعر بأن “الثورة عمقت تهميشه اجتماعيا وسياسيا” فيما قال 87 بالمئة منه إن “الثورة خيبت آماله” لأنها “لم تنجح في تشغيل العاطلين ولا في تحسين أوضاع العاملين”.

وأكدت الدراسة أن 94 بالمئة من الشباب يرى أن الأطر الاجتماعية والمدنية والسياسية لا تولي اهتماما لمشاكل الشباب ما يعني أن المؤسسات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية لا تمتلك البرامج ولا الآليات الكفيلة بتأطير الشباب ورعايته ومن ثَمّ حمايته من مختلف أشكال التهميش.

ووفق دراسات حديثة لا تستقطب الجمعيات ذات الأهداف الاجتماعية سوى 7 في المئة من الشباب على الرغم من أنها الأقرب إلى شواغله، كما أن منظمات المجتمع المدني لا تستقطب سوى 9 في المئة، أما الأحزاب السياسية فتقف نسبة استقطابها للشباب عند حدود 5 بالمئة، ما يؤكد أن الشباب التونسي يعيش على هامش الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تشهده البلاد. وقاد التهميش الاجتماعي والسياسي إلى تفاقم الإحباط وعدم الثقة في المستقبل حيث يرى 79 بالمئة من الشباب أن “مستقبله غامض” وأنه “فقد الأمل في تحقيق تطلعاته”.

ويشدد منتصر بن عامر – أستاذ علم النفس الاجتماعي – على أن “غياب دور الأطر الاجتماعية والمدنية والسياسية في تأطير الشباب وفق برامج تتحسس مشاغله عمق إحساس الشباب بالإحباط والشعور بالحرمان ما دفع به إلى الالتحاق بالآلاف من التونسيين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية.

 

إلى صناعة الموت

 

تعود علاقة الشباب التونسي بالتنظيمات الجهادية إلى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي حين سافر بعض العشرات إلى أفغانستان للقتال إلى جانب تنظيم القاعدة ضد قوات الاتحاد السوفييتي آنذاك وتزامنت تلك الفترة مع بداية ظهور ما يعرف بـ”الصحوة الإسلامية” ممثلة في حركة الاتجاه الإسلامي، حركة النهضة حاليا، التي أسسها راشد الغنوشي عام 1981.

ومنذ سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي ومع صعود حركة النهضة الإسلامية للحكم وجدت الجماعات المتشددة في الانفلات الأمني وفي تسامح الحركة الحاكمة حرية شبه كاملة للتسلل إلى أعماق النسيج الاجتماعي في الأحياء الشعبية وفي بلدات وقرى الجهات المحرومة ولتنشر صناعة الموت في أوساط شباب عاطل ومحروم ومحبط.

وساعدت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الهشة الجماعات الجهادية كثيرا على عمليات غسل الأدمغة وتجنيد الشباب في مجموعات إرهابية تتولى تسفيره إلى تركيا ومنها إلى سوريا والعراق للقتال في صفوف جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية.

وفي ظل أزمة خانقة تعصف بالبلاد وألقت بتداعياتها على المجتمع لتقوض ما كان يسميه الزعيم الحبيب بورقيبة بـ”فرحة الحياة” وتنشر البؤس واليأس وجد الآلاف من الشباب في يافطة الجهاد التي ترفعها الجماعات المتشددة ملاذا لتحقيق الذات وتسفيرها من حياة بلا معنى إلى معنى صناعة الموت.

وتتخذ الجماعات المتشددة من الأحياء الشعبية والجهات المحرومة أعشاشا للتفريخ إذ تناسلت تلك الجماعات في حي التضامن مثلا ليتحول إلى معقل من معاقلها الآمنة ومنطقة مغلقة تنخر أمن سكانه متسلحة بعشرات الخلايا المرتبطة بالجماعات الجهادية في الخارج.

ويقدر عدد الشباب التونسي الذي يتبنى الفكر المتشدد بأكثر من 100000 عنصر أغلبهم ينتمي لجماعة أنصار الشريعة التي يتزعمها سيف الله بن حسين الملقب بأبي عياض والمصنفة تنظيما إرهابيا.

ويقدر الخبراء عدد الخلايا الإرهابية بأكثر من 180 خلية منتشرة في كامل أنحاء البلاد تضم كل خلية ما بين 3 و7 أشخاص وتكونت بعد أن استقطبت شبابا ينحدر من فئات اجتماعية مهمشة وهشة وأمية.

ويبدو نزيف تسفير الشباب للالتحاق بالجماعات الإرهابية خاصة في سوريا والعراق بالنسبة للتونسيين أخطر ما يتهدد أبناءهم في ظل ظهور ثقافة “صناعة الموت وتمجيده” التي تتغذى من قدرة المتشددين على التغرير بالشباب وغسل أدمغته لتجعل منه حزاما ناسفا قابلا للانفجار في أي لحظة.

وتقول السلطات الأمنية التونسية إنها منعت خلال عام 2015 أكثر من 20000 شاب من السفر إلى سوريا والالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية الذي يضم أكثر من 5000 جهادي تونسي يتقلد العشرات منهم مواقع قيادية خطيرة.

وخلال العام 2015 والأشهر الماضية من العام 2016 فككت الأجهزة الأمنية حوالي 75 خلية جهادية موالية لتنظيم الدولة. وتساور التونسيين مخاوف جدية من عودة هؤلاء المقاتلين الشرسين لتنفيذ المزيد من الهجمات بعد أن شنوا في جوان الماضي هجمات متزامنة في مدينة بنقردان الجنوبية الحدودية مع ليبيا في مسعى إلى إقامة “إمارة إسلامية” غير أن وحدات الجيش وقوات الأمن أحبطت مخططهم.

وتطالب القوى المدنية والنشطاء والأحزاب بضرورة وضع خطة استراتيجية اجتماعية أمنية شاملة لمكافحة الظاهرة الجهادية وتحصين الشباب ضد عمليات غسل الدماغ التي يقوم بها الجهاديون والزج به في أتون شبكات دولية مستغلة حالة الإحباط التي فتكت به جراء غياب أي حلول عملية لمشاكله.

ولا يخفي الأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون أن الشباب التونسي يبقى مرشحا للمزيد من الهشاشة والإحباط واليأس الأمر الذي يجعله أكثر قابلية للظواهر الخطيرة وفي مقدمتها الالتحاق بالجماعات الجهادية ما لم تبادر السلطات والأحزاب والقوى المدنية إلى تأطيره وفق خطط وبرامج تتفاعل مع مشاغله وتزرع فيه ثقافة مدنية متينة تحصن شخصيته وتفتح أمامه الآفاق.

 

العرب