يخطئ الكثيرون حين يعتقدون أن الضغوط والمواقف الأميركية حيال برنامج إيران الصاروخي، وموقف واشنطن حيال الأموال الإيرانية المجمدة، هي الأسباب التي تقف وراء عودة التهديد والتصعيد إلى الخطاب السياسي الإيراني.

المؤكد أن التهديد الذي أطلقه نائب قائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، بإغلاق مضيق هرمز أمام السفن الأميركية، ليس عودة لقديم إيران، فما حدث من تغيرات وتحولات طرأت في العام الأخير على الخطاب السياسي الإيراني تجاه الغرب ليس سوى نوع من “التقية السياسية”، أو التخفي وراء قناع حمل وديع، بينما الحقيقة تؤكد أن ما وراء القناع ليس سوى ذئاب ماكرة تجيد المراوغة والخداع والتحايل والكر والفر السياسي.

بحكم إدراكي المتواضع للسياسة ودهاليزها ومتطلباتها، لا أعتقد أن هناك مشكلة في إجادة فنون المناورة السياسية، فهذه أبسط قواعد اللعبة السياسية في العلاقات الدولية، ولكن المشكلة تتمثل بالأساس في “الخداع” والكذب وتزييف الحقائق، فهذه سمات من شأنها أن تسقط مصداقية الدول وقادتها، وهناك مواقف لا تقبل المزايدات والمهاترات السياسية والإعلامية، منها توجهات الدول وسياساتها الخارجية، إما باتجاه الالتزام بالقانون والقواعد والأعراف الدولية، أو بانتهاك ذلك كله والتصرف وفق منطق اللاقواعد واللامبالاة وشريعة الغاب، وهنا تختلط الأوراق ويغيب منطق العقل.

أدرك أن إيران تجيد مبدأ توزيع الأدوار في سياستها الخارجية، حيث يتنوّع المشهد الإيراني بين متشددين ومن يصنفون ضمن قائمة “الإصلاحيين”، وبين هذا وذاك هناك مشتركات، هي ثوابت الثورة وقناعات الملالي ومصالحهم، التي لا تنازل ولا تفريط فيها. وفي ضوء ما سبق يمكن فهم التفاوت بين الخطاب السياسي للرئيس حسن روحاني والمؤسسات الدبلوماسية الإيرانية من ناحية، وتصريحات قادة الحرس الثوري التصعيدية المتشددة من ناحية ثانية.

روحاني يتحدث من جانبه بنبرة هادئة حيال الغرب والولايات المتحدة تحديدا منذ توقيع الاتفاق النووي، وحتى عندما يستشعر تهديدا لمصير هذا الاتفاق من الجانب الأميركي، فإنه يتناول الأمر بلغة خطابية دبلوماسية، تذكرنا بخطاب الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، تاركا التصعيد والتهديد والوعيد للقادة العسكريين المؤدلجين في الحرس الثوري الإيراني.

وكي نفهم تفاصيل المشهد المتعلق بتطور العلاقة بين إيران والولايات المتحدة جيدا، علينا أن نسترجع شريط الأحداث، فالرئيس باراك أوباما بات في موقف صعب خلال الأشهر الأخيرة من فترته الرئاسية الثانية، ولم يعد قادرا على الدفاع عن فكرة التقارب مع إيران في مواجهة ما تتعرض له من هجوم داخل الولايات المتحدة، وعلى صعيد الحزبين الديمقراطي والجمهوري معا. وما يفاقم أزمة أوباما أن إيران ذاتها تضع نفسها في مربع واحد مع خصومه السياسيين الداخليين، وتتصرف بنفس الطريقة التي يتصرفون بها، وتسعى إلى توظيف وضعية “البطة العرجاء” للرئيس الأميركي في انتزاع مكاسب استراتيجية جديدة لها، بدلا من أن تساعده وتهيّئ له الظروف وتقـدم له المعطيـات التي تعزز موقفه الداخلي. عندما تلجأ إيران إلى المضي في تطوير برنامج الصواريخ الباليستية وتواصل إجراء تجاربها ضمن هذا البرنامج، بدعوى أن الاتفاق النووي لا يتضمن ما ينص على تجميد هذا البرنامج، فإنها هنا تتصرف وفق منطق التاجر الانتهازي، الذي قد يحقق مكاسب سريعة مضمونة، ولكنه يخفق في بناء مصداقية مطلوبة في الأسواق.

صحيح أن الاتفاق النووي لا يتضمن بنودا تقضي بتجميد الأنشطة والبرامج الصاروخية الإيرانية، ولكن قاعدة المواءمة السياسية لا تتماشي مع تفعيل هذا البرنامج في توقيت سياسي بالغ الحساسية، وفي مرحلة زمنية هي بمثابة “عنق الزجاجة” بالنسبة لإيران، فبمجرد صدور قرارات تنفيذ الاتفاق ورفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران، صدرت تعليمات موازية من الملالي بإجراء تجارب صاروخية، ظنا منهم أن اللعبة قد انتهت وأن الكرة قد انتقلت إلى الملعب الإيراني، وهذا كان تقديرا استراتيجيا سيئا بل ومتهورا للأمور، لأن إعادة بناء الثقة وترميمها بين طهران والغرب لن تقوم على أرضية المصالح الاقتصادية الغربية ومقدار حصص الشركات الغربية من “الكعكة” الاقتصادية والتجارية الإيرانية المنتظرة فقط، بل تقوم أيضا على سلوكيات طهران وسياساتها الإقليمية والدولية خلال فترة “جسّ النبض”، التي تسرّع الملالي في حسمها بلغة متهورة اعتادوا عليها، إذ غلب الطبع التطبّع، متجاهلين أن قرار رفع العقوبات لا يعني انتقال الأموال المجمدة آليا إلى القنوات والبنوك الإيرانية. وهذا التهور السياسي الإيراني تسبب في فقدان مليارات الدولارات وأعاد الكرة ربما إلى مربع خلفي، إن لم يكن إلى المربع الأول للأزمة.

ترى هل وقعت إيران في “غلطة الشاطر” -كما يقول المثل العربي الشائع- أم أن تجدد التصعيد حيال الولايات المتحدة يعبر عن رفض داخلي إيراني وانتصار للقوى المتشددة على الساحة الإيرانية؟ وهل تمثل عودة التهديد مجرد تلويح بالعودة إلى “قديمه” أم أن إيران لم تجد في الاتفاق النووي ما يحقق طموحاتها ويرضي رغباتها فأرادت اللعب وفق قاعدة “الفوز بكل شيء أو لا شيء”؟ أم أن طهران تستبق توجهات الإدارة الأميركية المقبلة، بغض النظر عن هوية الرئيس الفائز بالانتخابات المقبلة، وتريد أن تمارس أقصى الضغوط عن طريق التصعيد اللامحدود وفق سياسة “حافة الهاوية” من أجل انتزاع مكاسب وتنازلات جديدة من الرئيس أوباما قبل أن يَطوي ملف رئاسته ويرحل من البيت الأبيض؟

ما يهمنا -كخليجيين وعرب- بالدرجة الأولى أن منطق القوى لا يغيب عن صانعي السياسة في إيران، فالملالي ينطلقون من أرضية قائمة على التلويح بالعنف واستخدام القوة الخشنة، ولا يحترمون سوى من يمتلك المقدرة على لجم قوتهم الخشنة، فلم تكن مفاوضاتهم الماراثونية مع القوى الدولية سوى نتاج لتقديرات استراتيجية إيرانية بأن طهران قد تخسر منشآتها وقدراتها النووية كافة، بل وقد يطاح بنظامها الحاكم في حال الاستمرار في العداء مع الغرب، ومن هنا كان “الصبر الاستراتيجي” واستدعاء دبلوماسية “حياكة السجاد” الإيراني من الموروث التاريخي من أجل تجاوز مأزق حقيقي لا أكثر ولا أقل.

العرب :سالم الكتبي