طغت السيرة السورية لـ «حزب الله» على سيرته اللبنانية. ليس مقتل مسؤول الحزب الأمني مصطفى بدر الدين وحده ما يُتوج هذا الاعتقاد، وليست سنوات القتال الخمس دفاعاً عن النظام السوري سوى محطة في هذا السياق. قبلهما اغتيل المسؤول الأمني الأول في الحزب عماد مغنية في دمشق، وفي أثنائهما سقط للحزب عدد من القتلى يوازي عدد قتلاه في لبنان. ولهذا تبدو سنوات الحزب الخمس في سورية أطول من عقود عمره اللبناني الثلاثة، وأكثر تكثيفاً لصورته ولموقعه.

 

 

والمهمة السورية لم تستنزف طاقات الحزب فحسب، إنما استنزفت أيضاً مهمته اللبنانية. ذاك أنه راح يوظف كل شيء في أتونها. يشارك في الحكومات على أساسها، ويُقدم التنازلات في سبيلها. يخوض الانتخابات البلدية ليقول إن البلدات الشيعية اللبنانية صوّتت لدوره في سورية، ويتنازل عن مقعد وزاري لتمرير حكومة تغطي حربه هناك. وفي سياق هذه الحرب أيضاً، عبث الحزب بالتركيبة الديموغرافية ليس لريف دمشق فحسب، ولكن أيضاً لبيئته المذهبية في البقاع اللبناني، وهذا يشبه عبث المرء بوجهه ووجوده.

 

 

ويمكن القول أيضاً إن تراجيديا حرب تموز 2006، والتي خيضت رمزياً لإطلاق الأسير اللبناني لدى إسرائيل سمير القنطار، تمّ تبديدها أيضاً في سورية عبر مقتل الأخير هناك. وهو تبديد مواز لتبديد أكبر ارتكبه الحزب بصورته التي انكفأت إلى حماية «المزارات» بعد أن قدم نفسه حامياً لـ «الأمة».

 

 

والحال أن الأكلاف اللبنانية لمهمة الحزب السورية لا تقتصر على القادة الأمنيين والعناصر المقاتلة الذين قضوا هناك، إنما، وهو الأهم، امتدت لتشمل توظيف لبنان، بعد تحويله إلى ساحة مشرعة الحدود، في هذه المهمة الخطيرة، إذ إن نَقل الانفجار المذهبي الداخلي من هذه الساحة المشرعة وغير المحصنة، إلى خلف الحدود لم يعن يوماً نجاة لبنان من أتون الحرب المـــجاورة. إحصاء صغير لعدد الســــيارات المفـــخخة التي انفجرت في الضاحية الجنوبية لبيروت يساعد على تقدير حجم الانكشاف. واستحالة رأب الصدع المذهبي تؤشر إلى أننا جزء من الحرب الدائرة خلف الحدود.

 

 

لكن مهمة الحزب السورية لا يبدو أنها بوشرت في أعقاب بدء الاحتجاجات الشعبية على النظام السوري في 2011. فالمحطات الأمنية الأساسية في سيرتَي الحزب اللبنانية والسورية لطالما ارتبطت بموقع «حزب الله» في معادلة إقليمية وغير لبنانية. عماد مغنية قُتل في سورية في 2008، أي قبل مباشرة الحزب قتاله هناك بأكثر من ثلاث سنوات، وفي حرب تموز 2006، كانت سورية حصن الحزب الخلفي، وهذه وقائع مُبكرة كان علينا أن نُفسر فيها عدم تردد «حزب الله» في توظيف كل طاقاته في الحرب السورية اللاحقة. وبهذا المعنى، فإن الحزب في موقعه الطبيعي في قتاله في سورية، وهو موقع لم يستجد في ضوء شعوره بأن النظام مهدد هناك. فهو في سورية قبل أن تشتعل الاحتجاجات، وهو هناك شريك في وظيفة فاق دوره فيها دور النظام نفسه. وهذا ما كشفته وقائع كثيرة. وذلك يعني أيضاً أن خسارة الحزب بسقوط النظام في سورية ستفوق بأهميتها خسارة النظام نفسه السلطة.

 

 

أما مقارنة الأثمان، فما لا شك فيه أن الثمن السوري فاق بأضعاف الثمن اللبناني الذي دفعه الحزب. ونحن لا نتحدث هنا عن عدد القتلى، ولا عن القادة الأمنيين، إنما أيضاً عن سهولة «الإنجاز» في الحالة اللبنانية واستحالته في الحالة السورية. فـ «حزب الله» في سورية صار جزءاً من ثقافة النظام في علاقته بالسوريين، وأيضاً من كبته عجزه عن رد الاستهداف. أما في لبنان، فكانت قواعد اللعبة أوضح وأكثر نجاعة. الاغتيال مقابل اغتيال، والغارة مقابل وابل من الصواريخ.

 

 

هذا كله لن يُغري الحزب بالعودة إلى لبنان. فـ «حزب الله» لم يكن يوماً لبنانياً، وهو ليس سورياً بطبيعة الحال. هو حزب إقليمي، وسورية ساحة إقليمية أهم من لبنان، وربما حُمِل الحزب إلى مهمة عراقية لاحقاً، والعراق أيضاً أهم للحزب من لبنان. ولكن يبقى أن الوظيفة في هذه الساحات، خارج الحدود، تحمل ملامح «خرافة التفوق اللبناني»، فهو قوة النخبة في الحرب الإقليمية، وفي هذه اللحظة يرتد الحزب لبنانياً عبر مساهمته المختلفة. وأن تكون مختلفاً في حرب أهلية تخوضها، فلن يكون اختلافك عنصر تقدم، بل فرصة ضغينة أكبر.

 

 

ثم إن الحديث عن المرحلة اللبنانية من سيرة الحزب يردنا دائماً إلى حقيقة أن هذه السيرة لم تكن يوماً متحققة، ونحن إذ سقطنا في إغراء الاعتقاد بأنه موصول في لبنان بمهمة صاغها النظام في سورية، فها نحن نكتشف أن النظام السوري كان حلقة، مثلما هو الحزب حلقة، في شبكة نفوذ إيرانية منعدمة الحساسية حيال الهويتين المتوهمتين للنظام وللحزب، أي سوريّة الأول ولبنانية الثاني.

 

 

قتلت غارة إسرائيلية المسؤول الأمني لـ «حزب الله» مصطفى بدر الدين. لن يُصدق السوريون أن الرجل كان في مهمة على الحدود مع إسرائيل. هوية المنفذ لن تُساعد هذه المرة في جعل الواقعة محطة في الصراع مع إسرائيل. واقعة مقتل سمير القنطار في غارة مماثلة في سورية نموذج مصغر عن مأزق خطاب الحزب الصراعي، فضلاً عن مقتل جهاد عماد مغنيّة. وهذا ناهيك بأن سيرة بدر الدين أكثر تعقيداً من سيرة القنطار، ودفع واقعة مقتله في سورية إلى أسطورة «الصراع مع العدو» سيكون مهمة أصعب. فإسرائيل في الحرب السورية ليست عدواً، وهي إذ تقتل للحزب مسؤوليه هناك، فهي تفعل ذلك في ضوء اطمئنانها ليس لعجز الحزب عن الرد فحسب، انما أيضاً في سياق حرب أخرى تبدو الاغتيالات فيها أقرب إلى صيغة المفعول الرجعي.

 

 

لا شيء أصعب من موقع الحزب في الحرب السورية. فالعدو ليس عدواً على رغم ضراوة استهدافاته، وسياق الحرب الفعلية يستنزف الرواية الأولى للصراع. مقاتلات روسية تُمهد للحزب حربه، وتُفسح في المجال للطائرات الإسرائيلية بقتل قادته.

 

 

أي حرب هذه، وأية تراجيديا!؟