انتقلنا بسرعة، عشية الاستحقاق البلدي، من رواج نغمة «إنمائية» الاستحقاق إلى إجماع كل طرف على «سياسيته» لا سيما في العاصمة والمدن الأخرى والبلدات الكبيرة. بقي التنبيه الى ان «سياسية» الاستحقاق البلدي يفترض ان تكون مختلفة عن «سياسية» الانتخابات التشريعية، وان عدم اقامة التمييز من هذه الناحية يقلل من حظ القراءة النقدية، الباردة، في النتائج، وتداعياتها، بعد انتهاء الاستحقاق، على مجرى الحياة السياسية. 

الانتخابات البلدية هي انتخابات سياسية من حيث انها سلطة محلية، ومن حيث انها مناسبة لإظهار الأحجام السياسية وتقلصها او تمددها، ومن حيث انها مناسبة لإظهار مسار التقارب او التباعد بين القوى السياسية، لكن ايضاً منسوب «الانشقاق» عن القوى السياسية الاساسية، ومنسوب «الارتياح» الداخلي في كل منها. لكن، بخلاف الانتخابات التشريعية، فإنها انتخابات بلدية لا يترشح عليها سياسيون محترفون، ما دام احتراف السياسة في العصر الحديث مرتبطا بشكل أساسي بالوظيفة المنبرية، أي الخطابة في برلمان (من هنا النيابة «سياسية» أكثر من الوزارة). الوظيفة المنبرية غير أساسية في العمل البلدي. قد يكون العمل البلدي مدخلاً للعمل النيابي، مثله مثل كل نطاق معني بالشأن العام والتقارب والتنابذ بين القوى المختلفة. لكنه مختلف. الانتخابات البلدية سياسية لكن السياسيين المحترفين ليسوا المرشحين فيها، بصرف النظر عن اسهامهم في تشكيل اللوائح، او في خوض الحملة الدعائية لمن يدعمونهم. 

من هنا، الانتخابات البلدية لا يمكن ان تؤخذ بحد ذاتها مؤشراً مطابقاً بشكل كامل للانتخابات النيابية، وان كانت بالطبع العناصر التي يتضمنها اي مشهد انتخابي بلدي ينبغي مراجعتها جيداً وبشكل دقيق، للاستفادة منها في تقوية القدرات في الانتخابات النيابية. 

في دائرة بيروت تحديدا اليوم، ثمة رابح وخاسر، وخاسر نال فوق ما كان يتوقعه هو لكنه لا يجعله رابحاً، وهذا ليس بتفصيل. المكابرة على النتيجة المحققة والمدهشة للخاسر خاطئة، والمكابرة على ان الاستحقاق يقاس في نهاية الامر اساساً كأي لعبة، كأي معركة، بمن ربح ومن خسر، ليس سياسة. 

وثمة نسبة تصويت قليلة ترتبط اساساً بتمييز مزمن يعطي الاهمية للنيابية على البلدية، وبعدم نجاح المتنافسين في اقناع الناس بأن هذه الانتخابات البلدية هي كما لو كانت نيابية. 

ثمة تمايز للخاسر في «حداثية» خطابه على الرابح، لكن ثمة أيضاً تماثل ايديولوجي كبير بين الخطابين، تماثل كان يشكل تحدياً للخاسر على يساره، وتحدياً لكثير من الناس لمعرفة التمييز. افتراض ان المعركة كانت تخاض بين لائحتين واحدة نيوليبرالية مثلاً والثانية ماركسية لينينية هو افتراض كاريكاتوري. كانت النيوليبرالية المحل الجامع للائحتين المتنافستين، وان انشدت الاولى الى حداثية «المجتمع المدني» في حين اختارت الثانية، وبشكل مرتبك، ولم يكن له داع بهذا الشكل، «أصالية» المجتمع الأهلي دون الاعداد الكافي حتى لذلك. 

وثمة أيضاً مآل الاستحقاق. من ناحية، هناك لائحة، الفائزة، لم تكن بحاجة لاعتبار معركتها «وجودية»، ومن جهة هناك لائحة خاسرة، كانت تبالغ كثيراً باعتبار معركتها «ثورية». 

ما يظل بحاجة الى المناقشة بعد هذه الانتخابات في جولتها الاولى هو مفهوم المناصفة. واضح ان هناك التباساً حوله بين مرجعيات مختلفة تتبناه، لكن بتضمين مختلف لفحواه. المفارقة، ان الانتخابات البلدية، التي تحصل خارج القيد الطائفي قانونيا، بخلاف تلك النيابية، تطرح مسألة تعني الانتخابات النيابية اولاً، اي التي تحصل ضمن هذا القيد. هناك اختلاف بين التصورين، المسيحي والاسلامي، للمناصفة الاسلامية المسيحية. ارضية مناقشة واستيعاب ذلك ينبغي ان يفسح لها المجال، انما بعد اخذ مسافة من حماوة الانتخابات البلدية، طالما انها مسألة تتعلق أساساً بالمؤسسات الدستورية، وخصوصاً بالسلطة التشريعية وقانون الانتخاب الممتنع لتجديدها. هناك تصوران مختلفان عن المناصفة والتقريب بينهما يحتاج الى ورشة جدية، بقيت منذ سنوات مؤجلة، وتحتاج لتداول الأفكار قبل كل شيء.

وسام سعادة المستقبل